غزّة- خاص قُدس الإخبارية: على سطح المنزل، لا ضجيج في المكان سوى صوت ريشة الرسم داخل معملٍ صغير، مليء باللوحات الفنية، التي يبدو أن لها تفردًا لا يضاهيه أي لوحة أخرى، لوحات ناطقة تعكسُ مشاعر فنان عجز عن النطق والسمع.
صباحًا، يبدأ الشاب محمود المقيد (23عامًا) بالرسم، وينتهي مع غروب الشمس التي رسمها بإحدى لوحاته، يرسمها دون ضوء قريب من عينيه وهو ما لا يتمناه، حيث وُلد بنظرٍ ضعيف بالكاد يساعده في الرسم، إضافة إلى كونه عاجز عن السمع والكلام.
يصعد لسطح منزله الذي يتكون من غرفتين وسطح، ويبدأ بسنّ قلمه وترتيب ألوانه، لا يُسمع له صوت، وضجيج المكان يكمن بلوحاته الفنية، يجلس ينتظر نسمات الهواء التي تجفف ألوانه الزيتية حتى تكتمل رسمته، ومصباحه بيده يساعده على إكمال اللوحات بيسر في معمله الخاص الذي أقامه أعلى المنزل مليئًا باللوحات التي تنطق بدلًا عنّه.
"ينحت نجلي عالمه الخاص بريشته ولوحاته الفنية"، قالت والدته التي تعرفه عن كثب ولا تدّخر جهدًا في الحديث عن نجلها الفنّان الذي يمتلك موهبة نادرة يصنع منها عامله بعيدًا عن مظاهر العالم الحقيقي وضجيجه.
معالمُ الدهشة بدت جليّة على محمود بعدما خرج من مرسمه، ليجد أشخاصًا بالخارج، مستفسرًا بحركات يديه وايماءاته عن سبب تواجدنا في منزله، فأجابت أمّه بلغة ترجمتها، أنّنا جئنا لنوصل صوته المكتوم، فاستبشر، وعكست حركات يديه دهشته التي لم يستطع اخفاءها، فتبسّم ورحّب بنا بطريقته الخاصة.
لم يصنع خلال حديثنا معه حواجز، فحركات يديه تحكي لغةً تمنينا لو أننا حصلنا على شهادة فيها، لكنّ والدته ترجمتها بالتوازي مع الحركات قائلة، "يخبركم أنّه يتمنّى أن تهتموا برسوماته، وتبرزوا لوحاته للعالم، فلا أحد يستطيع فهم رسالته".
أمسك محمود بيد مراسل "شبكة قُدس" واصطحبه إلى معمله الكائن على سطح منزله، وباشر باخراج ألوانه ومنظف اليدين وقاعدة الرسم الخشبية، ومصباح صغير يستخدمه لإيضاح الرؤية التي تشوشت عقب حادثٍ ألمّ به نتيجة الألعاب النارية والتي هي السبب الحقيقي وراء الضعف الشديد في نظره، بحسب والدته
على الجانب جلست والدته تترجم ما يقول، كما وضحت سبب استخدامه للمصباح الكهربائي، قائلة "تعطّلت شبكية عينه اليسرى نتيجة عبث أبناء الحي بالألعاب النارية، فأصبح المصباح رفيق حياته الذي لا يستطيع أن يرسم دونه، وأضحى يتماشى مع فنه الذي بدأه منذ صغره".
أنهى محمود لوحته وبدأ يلوح بيديه لنا، وخلال حركاته ارتسمت على والدته معالم ابتسامة، ثم ترجمت لنا حديثه حيث قال "أعاني من ضعف في عيني، لكن في المقابل أصنع أجمل اللوحات"، وأشار بسبابته إلى اللوحة التي أنهى رسمها، مضيفًا "انظروا ماذا صنعت هنا"، ثم أتبعها بابتسامة وصوتٍ شحيحٍ يظهر مدى تحجّر الكلمات في جوفه.
لم تغب القضية الفلسطينية عن رسوماته، مؤخرًا صنع محمود لوحة فنية بألوان الزيت، تعبر عن قضية فلسطين والتمسك بالمسجد الأقصى بعناصر مختلفة في رسمة واحدة، قال إنها تتمركز حول "القوة والنصر والهتاف والحزن والمقاومة".
"قولي لهم أني أرى تلك اللوحة حزينة تكسر قلبي كلما أنظر لها"، هكذا طلبت حركاته وإشاراته من والدته إخبارنا، وكذلك فعلت، حيث أوضحت بنبرة فخر أن نجلها شارك في العديد من المسابقات الفنية وحصل على مراكز متقدمة فيها، وكرّمته اللجان القائمة على تلك المسابقات بألوان تنتهي بعد رسم عدّة لوحات، ويتوقف من بعدها عن الرسم، حتى يرزقه الله من فضله "علبة ألوان".
"علبة ألوان" قد تبدو حلمًا لعائلة تمتلك فنانًا بروعته، لكن وضعهم الاجتماعي السيء لا يسمح بتوفير الامكانيات الفنية له بشكلٍ متواصل، تساءلت أم محمود "كيف لنا أن نوفر له ألوانًا كما يحب، ونحن بالكاد نستطيع أن نوفر قوت يومنا؟"، مضيفة "ينجز محمود لوحاته بالألوان التي تحصًلها من المسابقات، وعند انتهائها يجلس كئيباً، يندب حظّه، إلّا أنّه يرى بشائر المستقبل".
"أحتاج إلى اللون الأحمر والأخضر والأبيض، وإلى منظف الألوان، فالناس من حولي لا يهتمون بي"، هكذا كتب محمود على الأوراق البيضاء المحيطة متحدثًا للعالم الذي سيقرأ ويفهم رسالته، وحين سؤاله عن الورقات التي يحملها قال بإشاراته "هي الأمل بالنسبة لي، أحتفظ بها في جيبي بكل مكان أذهب له".
وحول تعليمه ومعاناته، قالت والدته إن "محمود يعاني منذ طفولته، فقد أخرجته المدرسة من الصف الثالث الابتدائي بداعي أن محمود أبكم وأصم لا يرى سوى بعين واحدة، وحين وصل الآن لعمر(23)هو يعاني من إهمال الناس لفنه ولوحاته"، لكن محمود الذي استفسر عن قولها، أخرج محمود ورقات من جيبه مكتوب فيها "أن تكون أبكم وأصم لا يعني أنك غير موهوب، فالموهبة لا يحتكرها مُبصر، فأنا أمتلك البصيرة".