لم يكن قد مضى كبيرُ وقت على استشهاد الأهل رحمة الله عليهم، كلّ شهيدٍ كان وحده خسارةً كبيرة، لكن العدد له قيمته أيضًا، شعرتُ فعلًا بمعنى الإبادة، نعم، أبادتنا "إسرائيل" أو كادت. كان يومًا عاديًّا، كنت خارجًا على عجلٍ من محاضرة "السيرة"، ولا أريد أن أتأخر على طلبتي في المحاضرة التالية، فلقيتني نسمة على باب القاعة، كان في عينيها بريق خبر كبير، قالت لي: "رحت راجعت عند الدكتورة وصوّرت اللي في بطني"، استغربتُ كلامها لأن الوقت ما زال مبكرًا على معرفة جنس الجنين! لم يطل بي الانتظار، فاجأتني بقولها: "الدكتورة قالت: توأم.. توأم"! كانت لحظةَ لا أنساها، شعرتُ بيد الرّحمن، تربّتُ على حزني، وتنتشلني من ألمٍ علم من كان حولي بعضه، ولا تحيطُ به الكلماتُ ولا العبرات. تسعةُ أشهرٍ مرّت على عجلٍ، وُلدت الطّفلتان بصحّةٍ جيّدةٍ ووزنٍ معقول، سمّيتُ أولاهما باسم أمّي "هيام"، والأخرى باسم كُبرى أخواتي الشهيدات "آية". رأيتُ ابنتيّ أسبوعًا، ثمّ خرجتُ حاجًّا إلى البيت الحرام. أصيبتا بعد أيامٍ من مغادرتي ببردٍ ورشحٍ وزُكام، أصيبت هيام أوّلًا، ثمّ أصابت العدوى آية، وكانت أنقص وزنًا من أختها، فتفاقم مرضُها بسرعة، كانت نسمة تتابعُ بهما عند الطبيب، ولم تكن الأمور بذلك السوء حتى حضر عيدُ الأضحى. في العيد، رأت نسمةُ أنّ آية ليست على ما يُرام، فجعلت تطوفُ بها على الأهل في العمارة، وتريهم إياها، وهم مترددون فيها، فمن قائلٍ: "مريضة في وضعها الطبيعيّ"، ومن قائلٍ: "شكلها تعبانة"، وهكذا حتّى رأتها "أم صهيب" زوجة عمّي أحمد، فقالت جادّةً: "هادي البنت بتموت"، وجرت دموعها خوفًا وألمًا، وتناولت الصغيرة، فلبست ما استطاعت وطارت بها إلى المستشفى لا تلوي على شيء، ونسمة وراءها لا تدركها. ما أن وصلت المستشفى، حتى أدخلوها العناية المركّزة، كان عمرها اثني عشر يومًا، شِقّ توأم، أخفّ وزنًا، وأقلّ حظًّا كما قال لنا بعضُ الأطبّاء. قالوا: إنّ حالتها خطيرة جدًّا. باتت الرضيعةُ أسبوعًا في المستشفى، وأنا لا أدري شيئًا، أخفت عنّي نسمةُ الخبر، إذ أنا بعيد، لن ينالني إلا الألم، وقلبي إذ ذاك لا يحتمل. بعد أسبوعٍ كامل كلّمتني وصعقتني بالخبر، قالت لي: آية في العناية المركّزة منذ أسبوع، وهي لا تتحسّن، وكرهتُ أن يأتيك خبرٌ كبيرٌ دون تمهيد! كنتُ واقفًا في الشارع حين سمعتُ بالموت يحوم حول صغيرتي التي بالكاد عرفتُها، فآلمني قلبي، وما أقلّتني قدماي! قعدتُّ مكاني، وبكيت. لم أعد يومها إلى البيت، بل إلى الكعبة مضيت، وفي الملتزم بين الركن والباب، دعوتُ، فما زدتُّ أن قلت: "يا ربّ.. بنتي! يا ربّ.. بنتي!" وقضيتُ يومين عصيبين، تحسّنت فيهما آية قليلًا، ثمّ عدتُّ إلى غزّة، وفي الصباح التالي لعودتي، خرجت آية من العناية بحمد الله. كانت تلك الحادثة أمرًا فارقًا في حياتي، منّة لله عزّ وجلّ، وفرحةً بإجابة دعوتي، ثم دينًا في رقبتي لأم صهيب بما كانت سببًا في إنقاذ طفلتي. اليوم تتمّ آية -وهيام بطبيعة الحال- سبع سنين، كانت في معظمها أقوى صحّة وأسمن قليلًا من أختها، وبقيت لي فرحةً وشاهدًا على كرم الله ومنّته عليّ، والحمدُ له على ما نحبّ ونكره. ينعقدُ الآن حفلُ عيد مولدهما ببيت شقيقي بلال حفظه الله، وقد أرسلتُ قلبي هناك يحضر معهم، ويسلم على الجميع.