رام الله - قدس الإخبارية: مُنذُ أيام وفِكري لا يكاد يتوقف عن تحليلِ ومناقشةِ الواقع الذي يعيشه حراك المعلمين الموحد، وهنا أقصدُ كلّ معلم وعامل كان أو لا زال في وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية، آمن بأن هناك ظلما وتجريدا للكرامة الإنسانية في وظيفته، تأخذ أبعادا مالية واجتماعية ومهنية تتزايد مع مرور الوقت، والصورة التي تكاد تخنُقني كلما تذكرتُها الشلال البشري الذي توجه العام الماضي لرام الله خلال شهر كامل، وما عاناه من تهميش وتشويه على الصعيد الإعلامي، وقمع ومصادرة هويات ووضع حواجز عرقلة، وملاحقة إن كنت معلما على الصعيد الأمني، ذَكّرَتنا بأيام خلت عندما كنا نعبر الجبال والتلال ونهرب من سيارة لأخرى وربما نستخدم الحمير لنصل لمدارسنا، واعتداءات فردية في غالبها موجه بطريقة مشبوهة على بعض المعلمين، وتعنت وإصرار من قبل اتحاد المعلمين على عدم رؤية هذه الحشود واحتوائها بذكاء، بل عمل على تقزيم نبضها وطعنها في كل زاوية استطاع.
وأما هذا العام الدراسي بدأ بنكهة أخرى صامتة باردة في ظاهرها لئيمة وقذرة في باطنها، وهنا أقف أمام كلمة "اجتثاث الحراك"، حيث تسرّبت هذه الكلمة وكأنها سرٌ مُعلن يجب تنفيذه على يد " لا أحد "، لتبدأ مرحلة الفرز الدقيق للمدعو حراك المعلمين الموحد وحتى لا يتم تكرار المشهد المتوحد والنابض بالكرامة مرة أخرى هذا العام، وحتى لا يتعود المواطن على الحرية والكرامة، وأن ليس كل حق مكفول بالقانون يطلبه سيأخذه، ولتكبر في رأسه كلمة سمعتها من عدة معلمين "الحكومة بدها الاتحاد واحنا مش قد الحكومة"!.
وهنا بدأ العمل على هذا السيل الجارف من الكرامة بعدة طرق فكل وله مَدخلُه، وغالبية هذا السيل طيب القلب يكفي الضرب على وتر الانتماء والضمير وتحليل لقمة العيش ومصلحة الطالب تارة والتلويح من بعيد بالعقوبات بأنواعها كل ومستواه تارة أخرى، ولعبت التبعية التنظيمية والعشائرية دورا في إقصاء جزء لا بأس به، واللعب على وتر أن هذه الحشود مسيسة وأن هناك أيد خفية تلعب بها وتحركها وتجرها نحو ما تريد!.
وساهم الزخم الإعلامي المشوه للحقائق المرافق لأي خطوة معلنة للحراك دورا في تظليل عدد لا بأس به، وخاصة أن القدرة الإعلامية والتواصلية للحراك كتنسيقيات على مستوى الوطن مع المعلمين كقاعدة كانت ضعيفة وعوائقها كثيرة، وبعضها مرهون بدوام المدارس، أو مشروخ عن قصد لدى البعض الآخر، ولدى نسبة أخرى كان التواصل الفيسبوكي ينقل الصورة كاملة دون تضليل، رغم بعض البيانات المضللة، وبعض الأدوات البشرية من الزملاء والتي وسعت الهوة أكثر وقطعت الأمل في تحقيق حقوق المعلمين إلا بوجود نقابة، أو أي جسم من اختيارهم.
وكانت لملاحقة اجتماعات الحراك، والتنبيه على أي مكان خاص أو عام لتجمعهم، عدم استضافتهم، وخاصة محاولاتهم لحجز قاعة لعقد المؤتمر التأسيسي وإشهار النقابة والتي كانت تتم بسلاسة ثم تعتذر الجهة التي تم حجزها في اليوم التالي أو بعد ساعات!، الأثر بإعطاء عدم الأمان لبعض المعلمين، وأنه سيكون ملاحقا من قبل الحكومة، وساهمت كثرة الاستدعاءات للأجهزة الأمنية بين صفوف المعلمين جانبا لا يمكن الاستهانة به، رغم الاستهجان لتلك العلاقة الغريبة للأجهزة الأمنية مع حقوق مطلبية نقابية بحتة للمعلمين.
كما ونالت استدعاءات مدراء التربية والتعليم لبعض النشطاء والبارزين في كل مديرية في الحراك، وتبليغهم رسالة شفهية تراوحت بين تهديد ونصح، وأن ممثلهم الشرعي الوحيد والمعترف به هو فقط اتحاد المعلمين، الدور في بث الرعب في صفوف البعض من المعلمين، وبهذا فقدت مديريات التربية والتعليم دورها لتتحول لمؤسسة أمنية في عيون البعض، واكتملت هذه الصورة مع تقديم التنبيهات لآلاف المعلمين لإضرابهم الجزئي يوم خميس، وتسخير أيام العطلة الرسمية لطباعتها!؛ لتكون جاهزة يوم الأحد مباشرة، وانهارت المنظومة التربوية والتعليمية بعد اضراب الثلاثاء الشامل وعقد لجان تحقيق من الإداريين مع المعلمين المضربين في مديريات الوطن، والانقسام الذي أبدعت وزارة التربية والتعليم وأيد خفية أخرى في فرض سياسة " فرق تسد ".
وكان للرسائل المبطنة من خلال الأقرباء أو الأصدقاء، لمن لا زال ثابتا على موقفه صدى لدى البعض، ومن أهملها تم تفريغ سموم الترهيب والرعب والعزف على الوتر السياسي وضعضعة الأمن الأهلي، واستقرار البلد، ومن لم تمر هذه اللعبة عليه، تم العزف على وتر التهديد بفتح ملفات مغلقة، والتلويح بالانتماء السياسي للبعض، أو تلفيق تهم جاهزة، وإعطاء ايحاءات بأن الإصرار على الموقف قد يصل لانتهاك الأعراض، أو التوريط في قضايا شرف.
وكانت طرق الضغط على المعلمات هي الأكثر قذارة وإيلاما، وتمت بطريقتين حسب اعتبارات لا أعلمها، وخاصة أننا لم نتعرض لمثلها مسبقا!، فقد تم استدعاء بعض المعلمات وذهب أزواج بعضهن نيابة عنهن، وتم اعتقال ووقف البعض الآخر لعدة أيام دون استدعاء، وربط الخروج بالحضور وتقديم إفادة والتوقيع على تعهد بالالتزام بالقانون وترك الحراك، وأخذ الجوال الخاص والعبث بمحتوياته وخرق خصوصيته، عدا عن تنزيل برامج تلغي الضمان على الجهاز، وأكثر ما يثير الجدل كلمة " الالتزام بالقانون "، فهل هذه التصرفات قانونية؟
ووصل الضغط منتهاه أن عدم الرضوخ وترك "الحراك" قد يعرض للاعتقال ولن يتم استثناء المعلمات، وهذا فتح خط ضغط على الأهل والأقرباء ليكونوا أمام خيارين نتيجتهما ستصل "للدم" إن تم المساس "بقريبتهن" واعتقالها من قبل أي جهة أمنية، الأول أن تكون الجهة الأمنية هي الغريم والثانية أن يكون الزملاء المنسقين على مستوى الوطن هم الغريم لتبدأ معركة التلويح بالحق العشائري والقتل كطريقة تهديد إن لم تنثني المعلمة!.
والجدير ذكره محاولات بث عدم جدوى المؤسسات الحقوقية، وأن اللاقانون هو الذي يحكم البلد، من قبل جهات هي الأولى بترسيخ مفهوم القانون والانضباط، ولا أخفيكم أن هذا شكل عبئا إضافيا في الضغط على البعض، رغم إصراري على عدم تصديقه وإن كان هذا لسان الواقع، فلا أستطيع المرور على سيارة عسكرية فلسطينية، وأن يرى ابني راكبيها دون أن أشعره بالأمان!، ألا يكفينا نظرة الإرهاب والاضطراب بعيونهم على الحواجز!.
وأخيرا من أعجب ما يمكن أن يعترض المعلم أن يكون الطالب مطية لتحقيق هدف غير أخلاقي للإيقاع بالمعلم، أو استخدامه ليلعب دور المستفز أو المندوب، ولا أنكر أن أشد ما قصم ظهر الحراك في بعض المفاصل هو الزميل المندوب المزروع مسبقا ليكون في كل مرحلة ليعرف من أين تؤكل الكتف، أو المضغوط عليهم لاحقا ليلعبوا هذا الدور القذر في خيانة زملائهم.
ولا أكاد أنسى الهمسات من هنا وهناك بشكل عشوائي، وكيف يتفاعل المجتمع مع الإشاعات التي يبثها البعض حول الحراك لتشويه صورته الراقية والحضارية، وأمام كل هذه المعطيات التي كانت خلاصة ما عشت في غالبها أو ما سمعت، أجد نفسي أمام ذهول وصدمة حقيقية أن كل التربويات والأخلاقيات التي نشأت عليها ما هي إلا حياة أعيشها في حدود أسرتي، وأن سنوات خدمتي الاثنتي عشرة شهدتُ فيها ما يكفي من تدهور تعليمي تربوي، ولا أدري إن كان الأهل يستشعرون حجم المأساة التي نرى مع فلذات أكبادهم، وإن يروا فلم هذا الصمت على ضياع أبنائهم؟.
وفي النهاية وفي ظل كل هذه الجهود والطاقات الكبيرة المبذولة في محاربة المعلمين وحقهم القانوني للعيش بكرامة، وحين وقفت معه من يفترض بهم حماية المعلم والرقيّ بمكانته أو وقوفهم موقف المتفرج، جعل المعلمين ينظرون لهم نظرة مغايرة، وجعلهم يفقدون آخر ذرة أمل بهم، ولو سخرت هذه الجهود الجبارة التي تفاجأنا بوجودها بهذا الزخم تجاه المعلم للنهوض بالعملية التعليمية التي يُتغنى بها، ما كان هكذا وضعنا ولا هذه خياراتنا!.