القدس المحتلة - قدس الإخبارية: ذات صباح وهي تتجول في أزقة البلدة القديمة، تمر ببائع الكعك المقدسي قرب باب المجلس، وتحمل كعكتين، لتدلف بعدها نحو باب السلسلة؛ تلك البوابة التي لطالما شهدت صولاتها وجولاتها وارتفع عندها مصحفها وسبابتها وصدحت فيها تكبيراتها، وجدت هناك حاجزين دون الأقصى، ودار حوار بينها وبين ذاك الحاقد الجالس عند الحاجز الأول:
-الشرطي: هاتي هويتك.
-هي: خذ هذه هويتي.
-الشرطي: أنت ممنوعة من الدخول.
-هي: ولكني لست مبعدة.
-الشرطي: عندي قائمة مدرج فيها اسمك كممنوعة من الدخول.
ويمنعها فعلا من الدخول، فتجلس عند الحاجز ترقب الأقصى وتسترق النظر إلى البوابة الداخلية، وهكذا حتى اجتمع إلى جانبها عشرون امرأة منعن من الدخول، وأدرجت اسماؤهن في قائمة سماها الحاقد قائمة سوداء، بينما في حقيقتها هي القائمة الذهبية؛ قائمة الشرف والعز!
عادت لبيتها تراودها الأفكار حول هذا القانون الجديد، هل هي قائمة سيسري العمل بها اليوم فقط، ام كل يوم؟! تكرر الامر في اليوم التالي، وفي كل يوم، حتى أصبحت تمنع كل يوم حتى يومها هذا، مضى عام وشهر على تلك القائمة، وأفراد القائمة في ازدياد من عشرين امرأة إلى خمسة وخمسين وبعض الرجال.
وما زالت تلك القائمة في يد كل شرطي على كل باب من أبواب المسجد الأقصى، بينما ظلت هي تتنقل من إبعاد لإبعاد، تارة إبعاد من مركز الشرطة، ومرة بأمر المحكمة، وأخرى بقرار من المخابرات، فإن انتهت قرارات الإبعاد الرسمية، سيظل منعها من الأقصى قائما لأن اسمها مدرج في تلك القائمة.
مر على إبعادها عام كامل عن المسجد، فلم تعانق جبهتها ترابه، ولم يرنو قلبها من مشاربه، ولم تطأ قدماها مصلياته، ولم تنعم بمائه وهوائه وطهره وقداسته، ومنعت حتى من أروقته وبواباته، وامتد إبعادها المكاني حتى حرمت من البلدة القديمة وأسواقها وأزقتها وحواريها، حتى إذا انتهت قرارات الإبعاد، واشتاق قلبها، وازدادت لوعتها، وأنهكها فراق مسجدها، قررت أن تدخل بخطى ثابت، فلا قانون يمنعها ولا إبعاد صادر بحقها.
فما كادت تصل الحاجز المعتاد حتى تحلقوا حولها وتربصوا بها وعمموا اسمها على باقي الحواجز والأبواب، ليستعد الجميع للتصدي لها ومنعها من الدخول، فعادت أدراجها باكية، وحاولت في يوم وساعة أخرى ولكنها دخلت خلسة في طيات عتمة الليل، أو غيرت هيأتها لتتمكن من الدخول.
وإذ دخلت رووت تربه بالعبرات والدمعات واحتضنت أرضه في الركعات والسجدات وقطعته ذهابا وإيابا فكأنما هو طفلها الذي سلبت منه وسلب منها، فعادت تحنو عليه وتبث له ما وقع عليها من ظلم وظلمات. وما كادت تهنأ بدخولها، إذ العيون تتبعها حتى خروجها فتتعرض لضرب أو اعتقال، وقد تلاحق داخل المسجد؛ فتجري مطاردة كما ذئب يطارد غزالا حتى يجد مخبأ يلوذ به.
حتى متى هذه القائمة؟!
حتى متى ستظل نساؤها ممنوعات من الدخول للأقصى، نساء لا يملكن من القوة سوى قوة العقيدة، نساء عزلاوات إلا من تكبير وسبابة ومصحف! حتى متى سيحرمن من بيت الله ومن حقهن في الدخول للمسجد الأقصى والصلاة فيه !! حتى متى يمنع أصحاب الحق من حقهم، بينما قطعان المستوطنين ترتع في الأقصى وتعبث فيه وتنتهك قداسته وحرمته!
لم هذا الصمت المطبق عن حرمان تلك النسوة؟!
لا ننكر أن التفاعل الإعلامي كان كبيرا ومؤثرا في البداية، لكن هذا الاهتمام أصبح في تناقص، وباتت هذه المقدسية وأخواتها يحرمن من الدخول وتعتدي عليهن الشرطة ضربا أو اعتقالا ولا يحرك أحد ساكنا.
لا بد أن تعود قضية نساء الاقصى والقائمة إلى الواجهة كما كانت في البداية، ولا بد أن تجد هذه المقدسية من يناصرها مجتمعيا وإعلاميا وقضائيا؛ إذ لا قانون على وجه هذه البسيطة يحرم اصحاب مسجد من أداء شعائرهم فيه، فكيف إذا كان هذا المسجد هو المسجد الأقصى أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا اليها، وقبلة المسلمين الأولى.
وليتذكر الجميع المثل القائل “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”.