رام الله – خاص قدس الإخبارية: التفت تسترق النظر إليه بعد أن تجاوزها عائدا للمنزل مستعجلا، فلم تكتف بالدقائق التي جمعتهما، غرقت خلاله بتأمل وجهه، بسمته، ملابسه الأنيقة، إلى حذائه الملمع.
همس مزعج يتبادله المصلون أثناء خطبة صلاة الجمعة متناقلين خبرا لم يصل بعد لشكرية، وما أن أتمت صلاتها حتى سمعت طفلات خلفها يهمسن "استشهد اياد زكريا".
"هذا ابني" صرخت، ثم نهضت تركض تسأل عما يجري، "الكل كان مصدوما وينظر الي، وأسأل ولا أحد يجيب ... وصلت المنزل وكنت آخر من يعلم بالخبر".
مسرعا ذهب إياد محاولا الوصول قبل بدء صلاة الجمعة، ليسلك المدخل الغربي لبلدته سلواد شرق رام الله، "ارجع ارجع" صرخ الجنود مصوبين أسلحتهم اتجاهه، أدار ظهره باحثا عن طريق آخر".
رصاصتان في الظهر
بعد أن سمع النداء الأول للصلاة، قرر إياد أن يسلك الأرض الوعرة المجاورة بعيدا عن الجنود، قاطعا الشارع الاستيطاني وصولا لمدخل قرية يبرود، وما أن رآه الجندي المتمركز بالبرج العسكري حتى أطلق رصاصتين بالهواء.
خاف إياد، صرخ ربما، وربما بكى، حاول أن يخرج من المكان، دار حول نفسه، ركض بضع خطوات إلا أن رصاص جنود الاحتلال أسقطه أرضا.
"في الصباح اشترى لنا كعك بسمسم وأفطرنا سويا .. لاعب ليان، وبعد أن استحم ذهب مجددا واشترى بعض المستلزمات لغدائنا اليوم.. ثم ذهب للصلاة مستعجلا كعادته" تقول نرمين حامد لـ"قدس الإخبارية"، التي لم تكن تعلم أن زوجها (٣٨ عاما) فضل مؤخرا أداة صلاة الجمعة في مسجد القرية المجاورة.
"كان يحب المشي كثيرا، لا يتعب أبدا .. كان يعود من الصلاة ووجهه ينقط عرقا .. وحتى لا أخاف عليه أخبرني أنه يصلي في مسجد البلدة البعيد عن منزلنا".
الأب الحنون
أب وزوج حنون كان إياد، يعمل ساعات طويلة في اليوم كعامل بناء ليعيل طفليه زكريا (٩ أعوام) وليان (عامين)، ثم يعود إليهم نهاية النهار متلهفا يحمل لهما ما طلباه من حلوى وألعاب، تقول نرمين: "الله يعينا على فراقه .. كان حنونا علينا كثيرا، ما أن يعود من العمل أن يجلس يلاعب زكريا وليان وهو ينظر إليهم فرحا وفخورا بهم".
عانى إياد منذ صغره من بطئ بالتعلم والتطور العقلي، ليكبر عمره سنينا فيما يبقى صاحب قلبا وعقلا طفوليا، "كنت أخاف عليه كثيرا ودائما أوصيه... ولكن لم أعتقد يوما أن يستشهد ويغيب عنا فجأة"، لتفتح ليان لوحدها ألعاب العيد، فيما لم يسعد زكريا بملابسه الجديدة كما باقي الأطفال.
تروي نرمين: "كان إياد يجب العيد كثيرا، لم يكن ينام ليلة العيد .. وقبل العيد بيوم أو يومين اعتدنا أن نخرج معا للسوق نشتري ملابس زكريا وليان وألعابهم، ونحضر الحلوى والقهوة وكل مستلزمات العيد".
دمع نرمين لا يجف، تقف على النافذة تنتظر عودته من العمل كما اعتادت، "كلما سمعت صوتا، أقول لقد عاد إياد وأقوم أبحث عنه، أراه جالسا على الكنبة واسمع صوته في المنزل"، أما ليان فلا يمر يوم دون أن تصحى تنادي "بابا .. بابا" لتجد صورة معلقة تقبلها فقط، فيما لا جواب لسؤال زكريا "لماذا قتلوا بابا؟".
أصر على عودة والديه
"مشتاقلك مشتاقلك مشتاقلك" نداؤه الذي لطالما جاءها عبر سماعة الهاتف على مدار السنوات الثلاث الماضية، ليدفعها لاتخاذ قرار العودة الفورية السريعة، فهي أيضا مشتاقة لاحتضانه وتقبيله، "يوما كنت أهاتفه، يتكلم وهو يصرخ بصوت راجف، يتكلم بكل مشاعره متوسلا أن نعود "تقول والدة إياد التي لن تسمعه بعد اليوم يقول ويكرر "بحبك يما ... بحبك بحبك بحبك".
الكثير من الذكريات جمعت أياد مع أشقائه الغائبين عنه منذ سنوات ولم يستطعوا توديعه حتى، "كل شيء جميل جمعني مع إياد، أذكر كيف كنا نلعب معا ونحن أطفال ونرمي الحصاة على بعضنا البعض، أذكر كيف كان يتصل علي ويقول لي مشتاقلك"، يقول شقيقه محمود.
فيما لا يغيب عن بال شكرية كيف كان يعود إياد من العمل، بوجه وملابس مغبرة يقف على النافذة ويطلب فتح الباب الخلفي حتى لا يوسخ المنزل، "صاحب ووجه وابتسامة بريئة كالأطفال، كنت أقول له دائما إنه سيلقى الله بقلب نقي لا يحمل حقدا أو كرها .. وها هو الله أكرمه ليلتقيه شهيدا".
وما زالت ملابس إياد التي خصصها للعمل، معلقة مكانها، تذهب إليها شكرية كل ساعة تشم ما تبقى بها من رائحته، رافضة غسلها أو تنقل من مكانها.
من سيقطف الزيتون؟
شجر زيتون ولوز وتين ودالية عنب، والكثير من الورد والزهور أحاط إياد منزله، فمحبا للأرض والزرع كان، يفتخر دائما بمزروعاته الشتوية، ويحدث والديه عنها كلما اتصلا، وما أن عادا حتى قطفوا معا شجرة اللوز.
أنظر إلى شجر الزيتون التي كبرت مع إياد .. واسألها من سيقطف ثمرك بعد استشهاده؟!" وتبكي شكرية مجددا وهي تستذكر كيف قشر لها اللوز وأطعمها بيديه قبل استشهاده بأيام.
"كان يد والده اليمين، نعتمد عليه بكل شيء منذ صغره .. كنا مطمئنين بغيابنا عن المنزل والأرض لانه مسؤول هو عنها".
اسم اياد لن يغيب ذكره عن العائلة حتى لو غاب صاحبه، فيقول شقيقه: "سأسمي مولوي القادم على اسمه .. وسيبقى إياد شمعتنا، ولن ننساه وسنحاسب من قتله".