القدس المحتلة - قدس الإخبارية: استفاق العالم صبيحة يوم 21 أغسطس/آب 1969م، وإذ بألسنة النيران تلتهم المصلى القبلي، الجزء الأعز من المسجد الأقصى المبارك، وقد أتت النيران على واجهات المسجد وسقفه وسجاده وزخارفه وكل محتوياته من المصاحف والأثاث، والتهمت منبر المسجد التاريخي الذي أحضره صلاح الدين الأيوبي من مدينة حلب، وذلك عندما استعاد المسلمون بيت المقدس عام 1187م، وقد كانت لهذا المنبر الجميل مكانة خاصة، حيث إن السلطان نور الدين زنكي هو الذي أمر بإعداده ليوم تحرير الأقصى.
النيران وأعمدة الدخان تتصاعد في سماء القدس من قلب المسجد الأقصى المبارك، وقلوب المسلمين في المدينة تتقطع من الأسى والحزن على ما آلت إليه أحوال مدينتهم ومسجدهم المقدس. وكالعادة تقوم سلطات الاحتلال بالجريمة وتفلت من العقاب وتلقي باللائمة على الصهيوني الأسترالي "دينيس مايكل روهان"، بل وتتهمه كما اتهمت غيره من الإرهابيين بأنه مختل عقلي! فإذا كان الأمر كذلك كما يدَّعون فإن كافة القرائن تشير إلى أن هذا الإرهابي لم يتصرف منفردا ووحده على الإطلاق، بل كيف تمكن هذا المجرم من إدخال كل هذه المواد شديدة الاشتعال إلى داخل المسجد؟ ونشر وإشعال النيران في أركان المسجد المترامية؟
بل ولماذا منعت سلطات الاحتلال سيارات الإطفائية ورجال الدفاع المدني من مكافحة النيران؟ وتركت الأهالي المكلومين يرفعون المياه بأياديهم ويكافحون النيران بأنفسهم؟
وبعدما أكلت النيران أهم معالم المسجد التاريخية، التي تعود إلى العهد الأموي، وفي حركة إعلامية بحتة سمحت بدخول الدفاع المدني، ثم واصلت سلطات الاحتلال تضليل الرأي العام المحلي والعالمي من خلال لجنة تحقيق عادة ما تكون منحازة تماما، حتى إن الاحتلال سمح لهذا المجرم بالسفر إلى خارج البلاد.
وعند التدقيق في أصل النيران التي تعددت أشكالها، وتنوعت أسبابها، وأخذت تتصاعد وتزداد تغولا منذ عام 2004 م حتى الآن، حتى بلغت الاعتداءات الموثقة على المسجد الأقصى أكثر من 3200 اعتداء، واشتملت على حرائق بالنيران ومجازر بالرصاص الحي المباشر، وأنفاق تحت جدران الأقصى....
نعم إن أصل هذه النيران يعود لبدايات فكرة إقامة المشروع الفلسطيني في فلسطين عندما قال المؤسسون الأوائل: لا قيمة لإسرائيل بدون أورشليم ولا لأورشليم بدون جبل الهيكل.
ومنذ الفتنة الكبرى بين العرب والأتراك ابتداء من عام 1916م وتركيز الحركة الصهيونية على الاستفادة من الواقع المرير للأمة الإسلامية، وبناء تحالفات قوية مع القوى الغربية، خاصة بريطانيا العظمى التي تنكرت تماما لوعودها للعرب، وتقديمها وعد بلفور للصهاينة، وتخطيط وتنفيذ مخطط سايكس-بيكو شديد الخطورة، من تلك الآونة كانت النيران في طريقها للهدف الأهم والرئيسي، وهو بيت المقدس ومسجدها الأقصى المبارك، وكاد المرء يرى بعينيه ويسمع بأذنيه قول الجنرال البريطاني ألنبي: اليوم انتهت الحروب الصليبية. ومن قبله قول الجنرال الفرنسي قورو وهو يطأ بقدمه قبر صلاح الدين: قم يا صلاح الدين فقد عدنا.
ليس بالضرورة أن يعود هؤلاء على رأس جيش صليبي، بل قد عادوا هذه المرة من خلال الصهيونية الصليبية التي هي أكثر خطورة من الحروب الصليبية، لا سيما أن هؤلاء مسكونون بروح توراتية تلمودية وعقلية ماسونية وأهداف إستراتيجية وقلوب لا ترحم.
ولم تكن حرب عام 1948م سوى نكبة كبرى قربت النيران من المسجد الأقصى المبارك، وبعدها بـ 19 عاما اكتملت فصول النكبة، وحلت الكارثة بشكل أساسي ببيت المقدس والمسجد الأقصى عندما اندفع الجنرال شلومو قورين الحاخام الأكبر لجيش الحرب الصهيوني داخل المسجد الأقصى واندفع مسكونا بنشوة النصر إلى داخل قبة الصخرة المشرفة وهو يعانق لفائف التوراة بيمينه، والسلاح الناري بشماله، تلك كانت رائحة البارود في قلب الأقصى.
ويغادر هذا الحاقد قبة الصخرة ويرفع مع مرافقيه من الجنود علم الاحتلال على المباني الإسلامية داخل المسجد الأقصى، تلك هي خطوة متقدمة تؤذن بخطوات ستتبعها، وهذا ما حصل فعلا.
ثم ينتقل شلومو وسائر قادة الاحتلال إلى حائط البراق وحي المغاربة وحي الشرف، وهناك يرفع الجنود شلومو على أعناقهم تقديرا لدوره في التعبئة والحشد والعدوان، ويشعلون النيران في هذه الأحياء الإسلامية، وصولا إلى إزالتها من الوجود وفرض السيطرة بالسلاح على حائط البراق، والاستيلاء على مفاتيح باب المغاربة أحد أبواب المسجد الأقصى المبارك، وبذلك يكون الاحتلال قد أوقد شعلة من النار في حائط البراق وحي المغاربة وباب المغاربة من شأنها ألا تشعل المسجد الأقصى المبارك من خلال الاقتحامات اليومية، بل من شأنها أن تكون كافية لإشعال حرب عالمية ثالثة على أساس ديني واضح بين اليهود والمسلمين.
وتمضي السنوات بل والعقود تلو العقود، ويتراجع خلالها التضامن العربي، وتتراجع معه مكانة القضية الفلسطينية، وتنهار الكثير من الشعارات التي طالما رددها العرب مثل: ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، بل وقد وصل الحال إلى أن الأنظمة العربية حكمت شعوبها بأحكام عرفية وشمولية تحت ذريعة الإعداد والتعبئة لتحرير الأراضي العربية المحتلة.
وبعد حين وعندما استفاقت الشعوب العربية على السراب وكوابيس الهزائم التي حلت بها، التي جرحت الكبرياء ومست الكرامة بشكل عميق، بدأت الشعوب تتململ وتدعو للتغيير والانعتاق من المذلة التي أصابتها، فكانت الأنظمة العربية الشمولية جاهزة للرد بالسلاح الذي تم شراؤه بأموال الشعوب، وكانت براميل البارود والنيران الحية تحرق الناس في العراق وسوريا ومصر، وهي الدول ذات الوزن الكبير والمكانة المأمولة تجاه قضية فلسطين، والتي حكمت على نفسها بالتبعية الذليلة للقوى والأطماع الصهيونية والأميركية والفارسية، بل وخرجت هذه الدول في الوقت الراهن من حالة ما كان يسمى الصراع العربي الصهيوني إلى أن أصبحت بوابة للتطبيع والعمالة جهارا نهارا.
هذه الصورة السوداوية للواقع العربي المرير، فتحت الأبواب على مصراعيها لبعث النيران الكامنة تحت الرماد، وفي عقول التلموديين لإشعال النيران في المسجد الأقصى المبارك، وهذا ما حصل بالفعل؛ فقد شعر الصهاينة بالغبطة والسرور، وسارعوا بل وتغولوا جدا في العدوان على القدس عامة والأقصى خاصة.
فبعدما كان الاحتلال يتوسل لدى إدارة الأوقاف الإسلامية التابعة للحكومة الأردنية لأجل السماح لأفراد من الاحتلال لدخول الأقصى، وذلك بناء على طلب خطي، انقلبت الأمور رأسا على عقب، وأصبح المسلمون وموظفو الأوقاف هدفا يوميا لأجهزة أمن الاحتلال، يعزلون ويعتقلون وينكلون ويبعدون من يشاؤون عن الأقصى بكل سهولة. ووصل الأمر بالاحتلال لمنع دخول مواد الإعمار للأقصى، بل واعتبار أن الأقصى يخضع لما يسمى سلطة الآثار الإسرائيلية، كما صرح بذلك يهوذا فاينشتاين مستشار حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة.
"لدى الاحتلال في الوقت الراهن برامج مدعومة من كل أذرع الحكومة لتسهيل حشد ووصول المستوطنين الذين ينتمون لـ27 منظمة يهودية ولغيرها إلى الأقصى واقتحامه يوميا والصلاة فيه"
وإمعانا في فرض سياسة الأمر الواقع في السيطرة على المسجد الأقصى، فقد قطع الاحتلال خطوات خطيرة جدا وقام بحملة دعائية إعلامية دولية حتى وصل الأمر بجون كيري وزير خارجية أميركا أن يتحدث بوضوح عن الأقصى بوصفه جبل الهيكل، ومثله وزير خارجية فرنسا يعتذر لنتنياهو عن قرار اليونسكو حول قرارها اعتبار الأقصى للمسلمين وحدهم، ويعد بأن يصحح هذا القرار بكل الوسائل، بل ووصل الأمر بالاحتلال بتصوير المسلمين الذين يؤمون المسجد الأقصى بأنهم تنظيم إرهابي، وعلى إثر ذلك تم حظر الحركة الإسلامية في مناطق 1948م، وسجن الشيخ رائد صلاح، ثم قام بالتنكيل بالمسلمات اللائي كن يتلقين التعليم في مساطب العلم في باحات الأقصى، وقام باعتقالهن والحكم عليهن بالإبعاد عن الأقصى تسهيلا لمهمة قطعان المستوطنين الذين يدنسون الأقصى يوميا.
ولدى الاحتلال في الوقت الراهن برامج مدعومة من كل أذرع الحكومة لتسهيل حشد ووصول المستوطنين الذين ينتمون لـ27 منظمة يهودية وغيرها إلى الأقصى واقتحامه يوميا والصلاة فيه، وإعلان البلوغ وعقود القران وتقديم القرابين عند أبوابه، وبحث الخطوات المستقبلية من خلال لجنة تابعة للداخلية في ما يسمى كنيست (برلمان) أصبحت تتدخل في كل تفاصيل وأمور الأقصى.
دائرة النيران تضيق وتضيق حول الأقصى، ويكتشف الاحتلال يوما بعد يوم أن الردود العربية والإسلامية أكثر ضعفا من أي وقت مضى، وأن الواقع السياسي الفلسطيني والانقسام وحالة الفوضى وانتظار المجهول قد أعطت الاحتلال فرصة تلو الأخرى للمساس الخطير بالأقصى والقدس عامة، بل وبباقي ما تبقى من الضفة الغربية.
ومنذ إعلان القدس (نظريا) عاصمة للثقافة العربية عام 2009م وحتى اليوم والاحتلال يمعن في تسمية كيانه بالدولة اليهودية والقدس (أورشليم) بالعاصمة الأبدية لليهود، وأن أقدس مكان لهم هو (جبل الهيكل) أي المسجد الأقصى المبارك، وإن ذلك لعمري ما هو إلا نيران حرب دينية تطل بلهيبها من خلال النيران التي تتوالى على الأقصى لتدمر المنطقة برمتها.
الجزيرة نت