القدس المحتلة – خاص قدس الإخبارية: "انتبهوا الجندي بقنص علينا"، أنهى "محيي الدين" جملته ثم سقط أرضا بعد أن خطى خطوتين غير متزنتين، لحظات مضت وما زال رفاقه ينتظرون أن ينهض ليمازحهم ويضحكون كالعادة، لكن ذلك لم يحدث.
لم ينهض محيي، فركض صديقه صوبه محاولا كشف مزحته، أزاح وجهه ليرى صديقه عابسا عكس ما توقع، وضحكته المعتادة سقطت من عينيه التي أخافته هنيهه، قبل أن يلملم قواه ليصرخ "محيي مصاب".
بين يديه حمل أحد سكان الحي محيى الدين الطباخي (10 أعوام) وركض به صوب المركز الطبي في بلدة الرام وهناك تم تحويله إلى مجمع فلسطين الطبي برام الله، ليعود محيى في 19/تموز شهيدا إلى والدته.
"استحم وتعطر وسرح شعره، وارتدى ملابس جميلة، وبدأ يقنعني أن أسمح له بمرافقة والده وأشقائه إلى نابلس، إلا أن أخوته طلبوا منه أن يبقى قريبا مني لكي يعاونني إذا احتجت شيئا"، تروي والدة محيى الدين.
محيى الدين المعروف "بالزنبرك" لحركته الكثيرة، لم يستطع المكوث أكثر في البيت حسب ما أوصاه أشقاؤه، "بدك اشي ماما احكيلي بسرعة، لأن لا وقت لدي اليوم وأنا مستعجل وربما أتأخر بالعودة للبيت"، قال محيى لوالدته قبل أن يخرج من المنزل.
إلى حي وادي عياد الذي يحاذيه جدار الفصل العنصري، توجه محيى للانضمام لأصدقائه الذين كانوا يتصدون لجنود الاحتلال. "ضرب الجنود عددا كبيرا من القنابل الغازية، فسقط محيى أول مرة بعدما اختنق ولم يكن قادرا على السير، حمله أحد الجيران وأسعفه وطلب منه عدم العودة للمواجهات، إلا أنه عاد وبعد أقل من 10 دقائق أصيب مرة أخرى واستشهد بعدها"، يقول أحد المتظاهرين.
أمتار قليلة تفصل التلة التي تدور فيها المواجهات عن نافذة منزل محيى الدين، حيث كانت تجلس والدته تراقب ما يدور، لكنها غفت للحظات قليلة لم تسمع خلالها صوت إطلاق النار، قبل أن تستيقظ على صراخ طفلتها التي تلقت نبأ إصابة شقيقها، " قلت لهم فور وصول الخبر أن محيي استشهد ولم يصب ... فقد كان لدي احساس بذلك".
لم يفارقها يوما شعور فقدان محيي، وهو ما وضعها بدوامة القلق والحرص الشديد عليه، ونقلت عدواها إلى أفراد العائلة الذين كانوا يداومون على الاتصال والاطمئنان عليه، "كنت أتوقع أن أفقد محيي يوما ما، وقلت مرة أنني أهبه لله ... كان طفلا ولكن في ذات الوقت كنت أراه يسبق عمره، وفي ظل ما يحيطنا من مواجهات توقعت أن يستشهد محيي".
ونقل أهالي الحي لوالدة محيي أنه كان يطرق أبوابهم دائما ويطلب منهم إغلاق النوافذ خوفا من الاختناق من القنابل الغازية، كما كان ينقل للشبان المتظاهرين الماء.
وتذكر الأم أيضا أنها وقبل أسبوع من استشهاد طفلها كانت تجلس وزوجها يراقبان ما يدور في المواجهات أمام منزلهما، فسألها، "إذا يوما ما نقل لك نبأ استشهاد أحد ابنائك ماذا ستكون ردة فعلك؟".
وتضيف، "لو لم يستشهد محيى خلال المواجهات لاستشهد وهو جالس في المنزل ... فجنود الاحتلال دائما يستهدفوننا بالقنابل الغازية والرصاص .. ونوافذ المنزل المحطمة شاهدة على ذلك".
الساعة التاسعة صباحا في 15 شباط 2006، ولد محيي في مجمع فلسطين الطبي، حيث تتذكر والدته تفاصيل ولادته في ذاك اليوم الذي سقطت به الأمطار بغزارة شديدة.
"محيي كان الحياة في البيت وكنا نلقبه بالزنبرك، فكان يفرض علينا أن نحبه ونكلمه، كان ظله خفيف يضحكنا دائما... إلا أنه كان هادئا ويميز بين وقت الجد ووقت اللعب".
وتروي والدة محيي أنه كان يهوى تركيب وتفكيك كل ما يقع بين يديه، وكانت متميزا في حفظ أرقام إطارات المركبات، ومساعدة أشقائه باختيار الإطار المناسب للمركبة.
العائلة كانت تلقب طفلها محيى "بالسنتمتر" لصغر حجمه، ولم تكن تقوى على رفض طلب من طلباته، "أحضرنا له حصانا، وكان يركبه دون سرج ويقضي معظم وقته وهو يلعب معه ويعتني به"، تقول أمه. فيما يشير أصدقاء محيى إلى أنه كان يسمح لأطفال البلدة امتطاء حصانه، مقابل شواقل قليلة، كما كان يسمح لأبناء حيه وأصدقائه امتطائه دون مقابل.
ويروي صديقه أحمد الرشق، "جمع محيي ألف شيقل بهذه الطريقة، اشترى بجزء منها ملابس العيد، وأعطى الجزء الآخر لعائلة فقيرة ... وكان دائما يدخل للمسجد ويضع في صندوق التبرعات ما بجيبه من مصروف دون أن يعلم أهله بذلك". بينما تؤكد العائلة أن حصان محيى كان حزينا جدا بعد استشهاده، ولم يتوقف عن القفز والصهيل خلال تشييع جثمانه.
محيي الدين بسنواته العشر ترك خلفه بعد ارتقائه جيشا من الأصدقاء والرفاق الذين يهتفون له في المواجهات التي تندلع اليوم دون أن يكون مشاركا، ولا يمر يوم عليهم دون أن يطرقوا باب أمه ويقبلون يديها ويجلسون معا، "كل يوم يأتي أصحاب محيي ويقولون لي نحن مثل محيي... وأدعوهم دائما لتناول الإفطار والغداء معي ليحدثوني عنه".