بعض الخمول وشيء من النعاس، وربما أمل في مرور الوقت بسرعة، هو ما جعلني استلقي وقت الظهيرة على سريري الحديدي، والذي تملؤه بقع الصدأ، حيث ينتشر الصدأ برائحته النفاذة، إذا ما تحركت الفرشة المهترئة عندما أنقلب عليها، ومع أني لم أعتد أن آخذ القيلولة للنوم، فقد كنت أستغل الهدوء الذي يصاحب هذا الوقت، بالكتابة إلا أني قررت اليوم أن أغمض عيناي، وكأني أريد بذلك حصر ما أرى من أحلام أصنعها لنفسي مع الحرية، نعم الحرية، فهي تبدو قريبة، وكل المؤشرات إيجابية، وتظهر أن احتمالات الإفراج أكثر بكثير من إمكانيات التمديد للإعتقال الإداري، والذي طالما تعرضت له.
كلما خطر ببالي ضابط صغير يقبع في مكتبه وراء حاسوبه؛ ويرى بعض المعلومات التي ترسل له من بعض "فئرانه" عني أو عن أي شخص أن يعتقلني، ولأنه لا يجد تهمة محددة لي ولمن شابهني في البحث عن الحرية، فقد قرر أن يسجنني بتهمة "أن لا تهمة لي" ومع أن الأمر يبدو فلسطينيا.
ولا يجد القارئ أي منطقية في العبارة إلا أنها الحقيقة، الحقيقة أن الاعتقال الإداري شرطه الأول الأخير، "أن لا يكون للمعتقل أي تهمة محددة" فإذا انطبق الاتهام أي "الشرط" عليك، فاعلم أنك قد تتعرض للاعتقال الإداري، فاحذر... أن تبحث عن الحرية.
أصبحت مستيقنا أن هذا الضابط الصغير أصبح يفعل ذلك سخطا على واقع لا يستطيع تغييره.
الطفل ما زال يرشق حجرا، والشبل زاد من وتيرة المقاومة، والمثقف أصبح يلقن الجمهور أن الاحتلال عبودية، والشيخ يموت وهو ضاغط على مفتاح بيته العتيق في حيفا ويافا...
أحيانا أخرى أظن أن هذا الضابط "ومع أن ضباط المخابرات يتغيرون في المناطق، إلا أن صفاتهم تبقى وإن تغيرت شخوصهم"، له ثأر شخصي معي، وقد يظن أني أشكل له خطرا على حياته، لذا فهو من يصدر هذه الأوامر الغبية باعتقال من يلعن الاحتلال سواء بقلمه أو عمله، أو حتى بعقله.
أغمضت عيناي، الهدوء الذي كان يكتنف الغرفة غريب، أو قد يكون هكذا تهيأ لي، حاولت النوم فلم أفلح، فقررت أن أسير حالما على الأقل أرى نفسي ماشيا مرة أخرى، حتى ولو بالحلم، وهكذا فعلت، ووصلت البيت، احتضنت أنس الصغير وسلمت على الجميع، كالعادة ينتظروني، وهاهي زوجتي جهزت الأولاد، ألبسة جديدة عطور مختلفة، أناشيد الأفراح تملأ الجو طربا وتزداد النشوة ابتسامات تشع من القلب، أخبار تتوالى همسا بأذني كلما احتضنت احدهم ووصلت الفراش، كنت سعيدا جدا، والجميع حولي يبتسمون، وفي نفس الوقت كنت مرهقا جدا، استلقيت على فراشي ونمت.
اختلط الحلم بالواقع، ولم أعد أعي ما يحدث...
صوت باب حديدي ضخم يرتطم بالحلق، وصوت معروف ينادي باسمي ولم أعد أدر أين أنا... فقط منذ لحظة كنت متمددا على فراشي، وابتسامات الجميع تلاحقني كأنها فراشات الفجر في بستان يمتد حتى يخترق الأفق بشذاه.
لكن، يبدو الآن أن الأصوات حولي تنبؤ بأمر مختلف، لم يعد هناك بستان، اختفت الابتسامات حتى الفراشات كأنها لم تكن، بدأت حواسي بالتجمع وكأن وقت الحقيقة بدأ، بتثاقل فتحت جفوني كانت الغرفة ما زالت معتمة، تحسست بأناملي الأشياء حولي
نعم... الواقع قد عاد، فكل شيء كان الحلم الذي صنعته لعلي أظفر به، حتى لو كان خلال نومي، فها هي أصابعي ترتطم بحافة السرير الحديدي البارد، سرت في أوصالي رعدة خفيفة وارتعاشة جعلتني أصحو أكثر.
ناداني الصوت: أعانك الله... جاءك تمديد جديد الآن، ويجب أن توقع على الورقة، وخزة كأنها إبرة مدببة وحادة وصلت إلى عمق القلب.
غصة في الحلق وكأنها تمنع التنفس والهواء عن الوصول إلى رئتي، الصدمة أبشع من كل مرة، وكأن هذا التمديد جاء يصر على قتل كل شيء في حياتي حتى الحلم بالحرية.
فتحت عيوني ثم نهضت، اقترب صاحب الصوت مني والورقة بيده، عرفتها فطالما رأيت مثلها العشرات سابقا لي ولأصدقائي.
تلك الورقة التي تحمل في حروفها أوامر مشددة، بمنع الحلم، الحلم بالحرية.
الآن وقد تنبهت كل حواسي وفهمت ما يجري يجب أن أتماسك أمام التلاميذ، الذين جاؤوا لأعلمهم معنى الحرية، يجب أن ابتسم ويجب أن أخفي الألم، فالتلاميذ ما زالوا يظنون أن معنى الحرية أن لا تشعر بالألم، لكنهم سيتعلمون مع الأيام الحقيقة التي تزيدهم صمودا، أن الشعور بالحرية يزداد بهاء كلما زاد الألم، وكلما أصبح الجرح أعمق، حينها سيكون الحصول على الحرية أجمل وألذ.
أيها القوم الكرام، الحرية ستبقى دائما هي ذاك السحر الحلال الذي نمارسه جميعا وستبقى جحافل الشر تتابع كالظلام الذي يغلق وديانا من حمم النار، فتحرق كل ما تلمسه وحتى يأتي اليوم الذي نمارس فيه جميعا ذاك السحر الحلال ... الحرية... سنبقى نقاوم.
وما هذا الموت الذي يأتي للمعتقلين الاداريين تباعا "التمديد"، إلا بعضا من الآلام وما يستطيع أن ينتزع منه الروح فهو موت مزيف، لا يتقنه إلا تلك الديدان الصغيرة التي تحاول الفتك بأجنحتنا وهنا هو طائر من نوع جديد يحلق في وديان الأرض يبحث عن الحرية.
"أملي أن يرضى الله عني"