رام الله – خاص قُدس الإخبارية: "هل تريدين أن أحضر شيئا للمنزل؟ قولي للأولاد أن يدرسوا جيدا ولا يضيعوا وقتهم هم الآن في فترة امتحانات". هاتف أحمد زوجته التي كانت تعد طبخته المفضلة "الكوسا محشي" وقد أخبرها أنه سيصل المنزل بعد نصف ساعة، ثم هاتف نجله عبد الرحمن مجددا ليتأكد من أنه ما زال يواظب على التحضير لامتحانه غدا.
مرت ساعة إلا ربع على اتصال أحمد، انقبض قلب أمجاد، فليس من عادته أن يتأخر عن موعد عودته للمنزل، حاولت الاتصال به متوقعة أن "يفصل الخط" ويعاود هو الاتصال بها كما اعتادت، إلا أن هاتفه ظل يرن دون أي يرد، ليقطع شك أمجاد بيقين أن زوجها حل به أمر ما.
فخلال عودة أحمد شحادة من قرية المدية غرب مدينة رام الله، في الثالث من أيار الماضي، إلى منزله في بلدة بيتونيا غرب رام الله أيضا، توقف جسده وتابع خبر استشهاده طريقه إلى عائلته، إذ لاحقته قوات الاحتلال قرب (حاجز 17) غير بعيد عن منزله، وأطلقت عليه النار، بعد تنفيذه عملية دهس أصيب بها ثلاثة جنود وصفت جروح أحدهم بأنها خطيرة.
وبعد ساعات من احتجاز جثمانه، سلمته قوات الاحتلال للعائلة، ليشيع في اليوم التالي إلى مقبرة مخيم قلنديا (مسقط رأسه)، بعد أن وُدِّع في منزله بالزغاريد. "عندما كان أحمد يتابع تشييع جثامين الشهداء، كان يتساءل من أين تستمد الأم والزوجة هذه القوة لتزغرد .. عندما ودعناه زغردت، شعرت أن قلبي يزغرد وليس لساني لأني أعلم أن هذا سيفرح أحمد"، تقول أمجاد زوجة الشهيد أحمد لـ قُدس الإخبارية.
"كان دائما يدعي بصلاته، اللهم لا تمتني إلا شهيدا ... والله حققه له أمنيته"، توضح أمجاد مستذكرة زوجها الذي لطالما عرف بابتسامته العفوية ومزاحه الدائم، فتقول: "كان زوجا مثاليا، مميزا عن جميع من حوله بصفاته .. أفتقده اليوم في كل شيء، أنظر إلى الكنبة فأقول هنا كان يحب أن يجلس، عندما أعد الطعام، أقول هذه الطبخة التي كان يحبها أحمد .. دائما أفكر فيه وما يصبرني فقط أنه رحل شهيدا كما تمنى".
أحمد شحادة (36 عاما) من مخيم قلنديا، يقيم وعائلته في بلدة بيتونيا، يمتهن الألمنيوم ليعيل زوجته وأبناءه الخمسة، (أكبرهم 16 عاما، وأصغرهم 6 أعوام)، "يوم استشهاده ذهب لتركيب الألمنيوم في منزل عمته في قرية المدية، وقد طلبت منه عمته أن يبقى عندها ويتناول الغداء، إلا أنه رفض وأخبرها أنه يريد أن يتغدى مع أطفاله"، تضيف أمجاد.
لم يجمع أحمد بأطفاله علاقة أبوية فقط، بل كانوا أصدقاءً مقربين، فقد رزق وهو بعمر (19 عاما) بطفله الأول رياض. تروي امجاد، "رياض وعبد الرحمن أصبحوا بطول والدهما وكان يعاملهما كأصدقاء .. يحرص دائما أن يكونوا مميزين بين أقرانهم، يحثهم على الصلاة دائما، كما يحثهم على الدراسة طوال الوقت ... كان يقول لهم أن تعبت من العمل بالحديد لا أريدكم أن تمروا بذات التجربة .. أريدكم أن تجتهدوا في دروسكم وتتعلموا.. حتى في يوم استشهاده اتصل علينا ثلاث مرات ليحث أبنائه على الدراسة".
لا يتوقف رياض (16 عاما) عن البكاء منذ أن ودع والده شهيدا، ينعزل في إحدى غرف المنزل وينهار باكيا، فهو الابن الأقرب لوالده الذي لم يكن يفارقه، "كان أحمد يحمل في قلبه حبا خاصا لرياض، كان يخبأ له ملابسه مذ أن كان طفلا، كما كان يحب ابنته بتول كثيرا كما تعلقت هي به"، تقول أمجاد.
أما بتول (6 أعوام) فلم تستوعب بعد خبر استشهاد والدها، وهي التي توقعت أن يعود للمنزل ماشيا على قدميه؛ إلا أنه عاد محمولا على الأكتاف، وتوضح أمها أنها عندما رأته خافت كثيرا وبدأت بالصراخ وبالبكاء، وهي حتى اليوم تخاف من دخول غرفته.
عبد الرحمن (14 عاما) خضع بعد استشهاد والده لعملية جراحية، وكان يفضل أن ينام على سرير والده، ويروي أنه في أحد الأيام دخل شقيقه الصغير إلى الغرفة وعندما رآه نائما مكان والده خرج يصرخ مخبرا أمه أن والده قد عاد وها هو في غرفته.
ورغم تشييع جثمان والدهم الشهيد، إلا أن أطفال أحمد ما زالوا يرفضون فكرة فقدان والدهم. يقول عبدالرحمن: "عندما نقل لنا الخبر، اعتقدت أني في حلم وسأصحى منه.. لست حزينا لأن والدي شهيد، بل حزين على فراقه وغيابه عنا، اشتاق إليه واستفقده كثيرا".
ويضيف عبد الرحمن، "كان والدي حريصا على تعليمنا كثيرا، يريدنا دائما أن نكون خلوقين ومؤدبين ومميزين عن من حولنا، وكان همه الأول أن تكون علاقتنا جيدة مع عائلتنا وأصدقائنا وأن لا نسيء لأحد".
ويروي عبد الرحمن الذي يطمح لدراسة الطب، أن والده كان يدفعه وشقيقه رياض للتسجيل في دورات وتدريبات مهنية في العطلة الصيفية، "تعلمت التصوير، فيما تعلم رياض صيانة الحواسيب حتى نتشجع في الدراسة ... دائما كان يقول لنا أنه سيعمل لنا حفلة يتحدث عنها العالم عندما نتخرج من الثانوية".
وتقول والدته: "لقد كان أحمد يخطط أن يفتح محلا لرياض وعبد الرحمن ليمارسا هوايتهما فيه، وقد أخبر عمته بذلك قبل ساعات من استشهاده... كما اشترى أرضا في قرية كوبر، وكان يقول دائما سأبني منزلا سيتكلم عنه الجميع".
ولطالما اهتم أحمد بأن "يُّسمِّع" لنجله عبد الرحمن دروسه، ويحاول مساعدته قليلا بما يعرف. فيقول عبدالرحمن: "كان أبي يحب أن يسمع لي دروسي عندما يكون عندي امتحان، ولكني لم أكن أفضل ذلك، كنت أتهرب منه دائما .. إلا أنني اليوم أندم على ذلك، كما أندم على أنني لم أكن أساعده في عمله".
عبد الرحمن وبعد استشهاد والده، رآه في الحلم يتحدث إليه قائلا: "أريد أن أزورك في عيادتك عندما تكبر، وأريد منك أن تعالجني". ويعلق، "قطعت عهدا على نفسي أن أحقق حلمه وأكون متميز دائما في دروسي".