في تفاصيل يدها حكاية وطن مختزلة، وجهها الأجعد يروي حكاية أمّ تنتزع الحبّ انتزاعاً، وتدنو من جحيم الشّوق كلّما طرق العمر بابها إنّي مغادر، الكلّ يغادر فلسطين إلّا الفقراء فهي ثراء قلوبهم.
أمّ تامر معلّمة فلسطينيّة من قرية بيت ريما قضاء رام الله، ولربما نجحت في تعليمها هذا وهي تُشرِب أبناءها الثّلاثة (تامر، سليم، فراس) حبّ الوطن والتّضحية في سبيله، وهي تعلم علم اليقين أنّها ستشرب من كأسهم هذا ولو بعد حين.
تامر، ابنها البِكر سبق أخويه إلى السّجون فهو يعتاده منذ سنة 2002م، بعد أن حكم بالسّجن لمؤبدات ثلاثة،ذلك السّجن الصّحراويّ اللعين (سجن ريمون) أمّا أخواه (فراس) الذي قضى حكماً بسنوات ثلاث و(سليم) إذ قضى حكماً لسنوات تسع، كانوا جميعاً مقصد الحدث وأساس الحزنِ. ثلاثتهم كانوا موئل الحب ومنبع الأمل لأمٍّ عجوزِ الجسد شابّة العزيمة والعنفوان، قضت جلّ حياتها تجول السّجون لتحظى بنظرةٍ من هنا أو وصلٍ هناك، تبحث عنهم وتشدّ رحالها إليهم كلّ شهرٍ مرتين تكحّل العين برؤية أحدهم.
عند الرّابعة فجراً تصحو من نومها تتفقد هويتها وأوراق زيارتها تتجهز للخروج ليومٍ هو من أيّام القيامة الدّنيويّة، تخرج من قريتها صوبَ رام الله حيث (حافلةُ الصّليب الأحمر)، تحاول الجلوس في مقدمته، فالرّحلة ستطول ويشتدّ جحيمها وسط النّهار،وستعزّي وحدتَها بإطارٍ أكبر من الزّجاج تشاهد بلدَها أجملَ ممّا اعتادت عليه، وحسرتها أكبر أيضاً، يمتلئ (الباص) بركّابه وينطلق عند السادسة صباحاً متّجهاً إلى الحاجز الإسرائيليّ المقام على أراضي (بيت سيرا) ينتظرون الجندي أن ينجز عمله الحقير، أحياناً يتعرّضون للشتائم ودائماً للانتظار المقيت،كلّ هذا ومزاج الجنديّ فاحم اللّون كما سلاحه، في هذه النّقطة يتم تدقيق التّصاريح وتمزيقها أحيانَ كثيرة، التأكّد من الهويات، التّعرّض للتفتيش شبه العاري، حالةٌ معتادةٌ بعض الشّيء فإن سوّلت لك نفسكَ رفض ذلك فمصيرك العودة إلى البيت خالي وفاضٍ من الوصل.
(بيت سيرا) نقطة العذاب الأولى للزائر المنهك، فبعدما يخرج وقد أمِن جانباً من الزّيارة ولو قليلاً، يرتاحُ بدوره وينتقلون إلى حافلة أخرى ذي لوحة إسرائيليّة، يستمر بهم دون أيّ معيقات سوى ما يتكدس في القلب من حرمة الأرض على أهلها.
يصلون السّجن خارجَه يتكدّسون داخل صالة مقاعدُها هيّنةٌ، مقلّة العدد والرّاحة للمتكدّسين، ينتظرون طويلاً وهم في الحرّ يتيهون ومن ازدحام الصّالة يخرجون، يأتي الشّرطي منادياً أسماء السّجناء ليودِع أهلوهم الملابسَ لهم، وتلك وحدَها علامةٌ من علامات العذاب المقبل، عذاب الانتظار الطّويل والدّور الّذي لا يأتي، كلٌّ بحجم تنكّره لحقّ غيره يخرجُ من القاعةِ بوقتٍ أسرع، لا نظامَ ولا احترامَ، هنا تظهر (الأنا القاتلة)، ونخرجُ نحن من لباس أخلاقنا والشّرطيّ ذاك تعطبُ حنجرته وهو يدعوهم أن استووا أن استقيموا، فنحن نفصلُ صلاتنا عن حياتنا قبل أن يفصلوا ديننا عن دولتنا، هنا جحيمُ الطّابور اللامنتهي وجحيمُ الحرقة على أخلاقٍ لا نفاخر بها عدوّنا.
بعد المرحلة المقيتة تلك، تبدأ عملية التّفتيش الدّقيقة جداً، تفتيش كهربائيّ عليك اجتيازه دون أن يقرع رنين الآلة أذنَ الشّرطيّ، والحقّ يقال: يستحيلُ أن تقرع جرسَ آلته بمعادنك إلّا ويسمعُك الوغد ويفتح الباب لك ويقول: (ريغا ريغا) لتعيد المحاولة وتبحث أشدّ البحث عن معدنٍ لعينٍ مختبئٍ يؤجّل اللقاء، تنجح أخيراً، تسبر أغوار أدراجهم الطّويلة صعوداً أو هبوطاً، تخرج من غرفةً وتدخل أخرى والعيون معلّقةٌ في زواياها ترقبك بكلّ حذر.
تصلُ القبلةَ الأخيرة وأنت على الأعتاب منتظراً الإذن الجميل الذّليل؛ من خلف الباب أبصرُ ما لا تبصره أمّ تامر، فهي لا ترى إلّا صورة تامرٍ يبتسم لمرآها، أمّا أنا فأرى الحبّ والحزن، الضّحك والبكاء، الانبهار والسكون، العدو والصّديق، الأب والابن والزّوجة، أرى التّناقض الحاصل بين الحقّ والباطل، باطلٍ خائفٍ مترقب، وحقٍّ مهيبٍ وادعٍ؛ يصبح الشّباك العازل وجها جميلاً، فهو يُداعَب ويُقبَّل ويُلمس وتتكلم العيون كلامها، في هذه الغرفة (غرفة التّناقضات) تصبح الدّقائق الأربعون ساحةَ حربٍ بين القاطنِ خلف الشّباك ومَن يقابلُه، حربُ غنائمَ ربما، كلّ يبغي سلباً يذكي عاطفته، الحبّ مثلاً، نظرةُ المخطوبة إلى خاطبها تختلسها والحياء يقطر من مقلتيها، وأنّى لخاطبها أن يجفّف تسكاب دمعها، أمّا الغضب، فتلحظه برمقةٍ شزراء بين الجنديّ وطفلِ الجيل القادم يتربّى على الحرمان من كلّ شيء ومن أدنى شيءٍ أيضاً، ربما من المعارك التّي لا يودّ طرفاها أن تنتهي فكلاهما منتصرٌ ولو بظاهر الحدث وسطحيّته، في هذه الغرفة قد تتغيّر نظريّة فرانز فانون في كتابه (معذبو الأرض) بحسَد المُستعمَر للمستعمِر، فالشّرطيّ أحياناً يحسُد الأسيرَ وأهلَه، أنّى استطاعوا الضّحك والبكاء !!! أنّى تملكُ الأسرة الفلسطينيّة هذا الحبّ، وقد يسأل لمَ لم ينتصروا علينا بالحبّ، ربما يقول هم عاشوا حريّة الحبّ إلّا من أدقّ جزئيّتها، لقاءٌ لم يضرب موعدَه طرفا الحبّ، فكلّ إجبارٍ محرّم حتّى ولو في لقيا الأحبّة.
أمّ تامر هذه التي اعتادت هذه الزيارة منذ سنوات تأتيها كأن لم تره من قبل، بحبٍّ متجدّد بوصلٍ متقطّع، بابتسامة تنم عن إشفاقٍ وإجلالٍ في ذات الوقت.
تلتقي أطراف الأصابع وتلتقي الأرواح بالتقائها، يستغلّون كلّ لحظة من لحظات الوقت الثّمين، فالشّرطيّ جاثم كأنّه صنمٌ معتادٌ معكوف، بل يغضب غضب الآلهة القديمة إن أدلى أحد الزّائرين بدلوٍ ما -ولن يفعلوا- فإن كان فقد تمنع الآلهة عنهم قطر السّما.
يرن الجرس، تنتهي أحلامُ الطّرفين وتبدأ أحلام اليقظة التّعيسة، يقبّلون بعضهم عن بعد، يخرجون وخطواتهم إلى الوراء ووجوههم إلى القبلة تصلّي صلاتها الأخيرة.
في طريق العودة تتعانق الذّكريات مع مقعد الحافلة لساعات ثلاث، أواصل سرد القصّة ذي والسّاعة قاربت على الثانية عشر منتصف الليل .
خمسٌ وأربعون دقيقة تستحق عناء يوم كامل لا شك، فالقارئ عاش تفاصيلها متعاطفاً، بينما أمّ تامر عاشتها والجسد منهكٌ عليل والقلبُ مبتهجٌ ذو سرور، تلك اللحظات الرّهيبة بسوء جوّها وجمـــــال عمقها كانت تستحق. عناءٌ لا يتحمّله إلا من أضناه الشوق وأكمد قلبه بعد الوصل، أمّ تامر تصل بيتها وقلبها فرِحٌ بما رأى وما أحسّ، فكما يقولون يذهب التّعبُ ويبقى ما وقر في القلب.