مخيم قلنديا – خاص قُدس الإخبارية: لحقته إلى قفص الحمَام، محضرة معها ابريق الشاي عسى أن تجلس معه قليلا قبل أن يعود مجددا إلى زقاق المخيم، أشار أحمد "هذه الحمامة تعتقد أني أمها"، ثم قام يمشي ليثبت لها كيف أن الحمامة تتبعه أينما ذهب.
عاد وجلس معها وهو يحضن الحمامة ويطعمها بيده حبة حبة، ثم يقربها من فمه لتشرب منه الماء، فقد خلقت بمنقار أعوج ولا تستطيع أن تأكل وتشرب لوحدها؛ نهض مجددا وصفَّر بلحنه الخاص، وما إن مرت ثواني حتى أصبح محاطا بعشرات الحمام الذي هدّى حول قدميه على سطح منزله .
" لم يكن انسانا عاديا، كان ملاك، وهاهو يعود لمكانه الحقيقي إلى السماء"، أبسط وصف تصل إليه ريما للحديث عن زوجها أحمد أبو العيش الذي ارتقى شهيدا بعد أن زرع ثلاث زهرات في قلب المخيم.
مساء 16 تشرين ثاني 2015، دفع جيش الاحتلال بتعزيزات عسكرية ضخمة قدر عددها بأكثر من ألف جندي، بهدف اقتحام مخيم قلنديا شمال القدس، لتأمين عملية هدم منزل الأسير محمد أبو شاهين منفذ عملية دير بزيع.
جُن جنون المخيم الرافض أن يدوس المحتل ترابه، فخرج أبناؤه وبينهم مسلحون للتصدي للجنود، فاندلعت اشتباكات عنيفة استشهد إثرها أحمد أبو العيش وليث الشوعاني، فيما يؤكد أهالي المخيم أن أكثر من جنديين اثنين قتلا في ساحة المعركة، وهذا ما لم يعترف به الاحتلال.
في تلك الليلة؛ عاد أحمد إلى منزله وحلق لحيته وهذبها، ثم استحم وخرج مجددا مع أصدقائه، "بعد أن استحم جلس يلعب مع طفلاته الثلاثة كعادته. كان يحضنهن ويقبلهن بحرارة.. وعلى الرغم من أنه دائما يفعل ذلك إلا أنني شعرت بشيء مختلف هذه المرة"، تروي ريما.
لم يأخذ أحمد معه مفتاح المنزل وقال لزوجته، "إذا عدت فستفتحي انتِ الباب لي"، فأحمد يعمل منظما للسير على مدخل باب المخيم حيث يشهد أزمة يومية، ويتأخر دائما في العودة إلى المنزل، كما يضطر للخروج كل صباح في وقت باكر.
من خلف الباب كرر أحمد سؤاله مجددا "هل تريدين شيئا أم صبا؟ هل تريدون شيئا يا بابا"، ردت ريما بالنفي متمنية له السلامة، "كالعادة طلب مني أن أرضى عليه.. فمنذ وفاة والدته وهو يقول لي دائما اترضي علي، فقد كان يعتبرني زوجة وأم وصديقة".
وتضيف ريما، "هب كل الشباب للدفاع عن المنزل المهدد بالهدم بعد أن اقتحم الجنود المخيم، وكان زوجي بينهم". بعد ساعات قديمة تلقت "أم صبا" اتصالا هاتفيا حمل خلاله المتصل نبأ استشهاد أحمد. تعلق ريما، "فخورة بزوجي، ومؤمنة أنني لم أخسره، فربنا وهبه الشهادة ليجمعنا به في الفردوس.. أنا بالتأكيد حزنت كثيرا وصدمت، ولكن الله رمى الصبر في قلبي".
عُرف أحمد - المهجرة عائلته من قرية "سريس" عام 1948 - في المخيم بكرمه ونخوته لكل من حوله، وبطيبته ومرحه أيضا، ولا يذكر أحد من المخيم أنه رأى أحمد يوما بوجه عابس.
تقول ريما، "كل الصفات الجميلة بأحمد، لا يوجد كلام يصفه... فالمخيم وزقاقه وأهله يشهدون بصفات أحمد الطيبة، الكل خسر أحمد .. كان يؤمن أن ما معه ليس له، فكان خيرا على كل من حوله، يستضيف أصدقاءه دائما ويطلب أن نطبخ ألذ الطعام، كما كان يحن ويعطف على أحد جيراننا من ذوي الإعاقة ويشتري له ما يشتريه لنفسه".
وتروي أن أحمد كان يتطوع خلال شهر رمضان لتوزيع الماء والتمر على الناس العالقين عند حاجز قلنديا، "كان يأتي إلى المنزل بعد موعد الفطور بساعة.. مواقفه الخيرة في المخيم كثيرة ولا تعد".
في عام 2011 مر أحمد بصدمة فقدان والدته بعد تحرره من الاعتقال بشهر، ثم استشهاد صديق طفولته ورفيق أسره علي خليفة، وما إن استشهد أحمد وبدأ المخيم بتداول صورته وهو ينهار باكيا في تشييع صديقه علي، حتى ظهرت عدة روايات حول العلاقة التي ربطت الصديقين. قالت آخرها إن أحمد باع مركبته الخاصة واشترى بثمنها سلاحا لينتقم لصديقه.
"استشهاد علي ترك أثر كبير على أحمد، خاصة أنه كان أكثر الأصدقاء المقربين عليه، كما أن أحمد كان يتأثر كثيرا بكل الشهداء الذين ارتقوا في الآونة الأخيرة... الناس كانوا يرون بسمة أحمد فقط، ولكن أنا من كنت أعرف كيف كان يتأثر ويحزن وتعب وتغيرت نفسيته كثيرا"، تقول ريما.
صبا، سوار، سالي.. زهرات أحمد الثلاث اللواتي كان يتباهى بهن أمام الأصدقاء والجيران وأهالي المخيم، "كان يطلب مني أن ألبسهن أجمل الملابس ثم يأخذهن في جولة في المخيم، يكون ماشيا متفاخرا بهن وينادي بالجميع ليروهم".
"الأميرات الثلاث" كان أحمد يلقب طفلاته ولا ينادي أيا منها إلا بلقب الأميرة قبل اسمها، وكان يشجع أكبرهن وهي صبا على الدراسة ويجلس معها ويعلمها كيف تكتب، وكان طموحه أن تصبح بناته من الجامعيات والمتعلمات.
ولم يكن احمد يدخل المنزل إلا محملا بالألعاب والحلوى، "يا أحمد المنزل امتلى بالألعاب" تقول ريما لأحمد، فيرد، "خليهم يفرحوا ويعيشوا.. كلها حياة واحدة". ورغم عمله المتعب إلا أنه كان يجد دائما وقتا ليأخذ طفلاته الثلاث ليلاعبهن في المتنزهات القريبة.
وتوضح ريما أن أحمد لم يكن يرفض لأميراته أي طلب وكان يصحبهن إلى أي مدينة ألعاب يسمع عنها، ويشتري لهن أي لعبة كانت تُعرض على شاشة التلفاز، بل إنه كان مستعدا دائما لتلبية أي طلب لأي منهن حتى في أوقات متأخرة من الليل.
تحمل صبا إحدى الألعاب وتقول، "هذه السيارة المجنونة كان بابا يلعب بها"، فيما تحمل سوار لعبة أخرى، "كان بابا يلفها هكذا وهكذا، ثم تعمل". تعلق ريما، "كان أحمد طفوليا جدا، يجلس يلعب مع طفلاته ساعات طويلة ويكون متفاعل معهم... راح أحمد ولا أعرف من سيعوض بناته الآن عن كل هذا الحنان".
"متى بابا يشبع نوم من الجنة .. متى بدنا نروح عند بابا للجنة"، تسال سالي (ثلاث سنوات) فيما تكرر شقيقتها صبا (خمس سنوات) لأمها ذات الأسئلة مرارا وتكرارا، فالطفلات الثلاث غير قادرات على استيعاب اختطاف الموت لوالدهم.
أربع مرات اعتقل الاحتلال أحمد، قضى خلالها فترات متفاوتة في سجون الاحتلال، تقول أم بناته، "في كل مرة كان يبقى الأمل أن أحمد سيعود ولكن هذه المرة لن يعود أحمد إلا أن نلتقي في الجنة". إلا أن أحمد لم يغب كثيرا عن ريما حتى بات يزورها في أحلامها، "ألومه في الحلم كيف تركنا وذهب، فيجيبني أنا لم استشهد أنا مازلت عايش... أراه مبتسما وسعيدا يحمل الحلوى ويأتي بها لطفلاته، وعندما سألته من سيطعم الحمام بعدك، فيجيبني ربنا سيطعمه".
عندما كانت ريما تسأل أحمد "ماذا أفعل إذا استشهدت أو اعتقلت"، كان يجيبها أحمد دائما، "أنا اعتمد عليكي وأثق فيكي... وأعلم لو ذهبت من سأترك خلفي ليهتم بطفلاتي". تتذكر ريما وتقول، "أنا حزينة جدا لفراقه .. ولكني زدت قوة وصلابة وسأكون لطفلاتي الأم والأب".