مخيم قلنديا – خاص قُدس الإخبارية: ستائر غرفتها مسدلة، لا نور يدخلها سوى ذلك المتسلل بصعوبة، سريرها مرتب أكثر مما يجب، وكتبها المدرسية ما زالت كما تركتها لم يمسسها أحد، كما لعبتها المفضلة التي تحذر دائما من العبث بها.
في 23/تشرين ثاني، استيقظت هديل وجيه عواد (15عاما) كعادتها، ارتدت زيها المدرسي وحضرت حقيبة كتبها بعد أن حرصت على الحصول على جرعة دلال من والدتها، طالبة منها أن تحضر لها صحن "كورن فلكس" لتفطر عليه، ثم تناولت ملعقة عسل وأخذت معها بضع حبات تمر.
"طلبت مني المال لتستطيع شراء قبعة وقفازات، فأعطيتها 100 شيقل وخرجت كعادتها وهي تحمل حقيبتها المدرسية"، تقول مليحة عواد والدة هديل، موضحة أن ابنتها بقيت طوال الليلة الأخيرة من حياتها تراجع دروسها استعدادا للامتحان.
وتضيف مليحة عواد من مخيم قلنديا لـ قدس الإخبارية، "هي طفلتنا الصغيرة المدللة، لا نرفض لها طلب ونوفر لها كل شيء".
هديل لم تذهب في ذاك اليوم إلى المدرسة، بل توجهت مع ابنة عمها نورهان عواد (16 عاما) إلى مدينة القدس، وهناك أطلقت عليهما قوات الاحتلال النار بعد اتهامهما بمحاولة تنفيذ عملية طعن، لترتقي هديل شهيدة، وتعتقل نورهان بعد أن أصيبت بثلاث رصاصات.
سلطات الاحتلال احتجزت جثمان الشهيدة هديل في ثلاجتها 25 يوما، قبل أن ترضخ لمطالبات عائلتها وتسلمهم جثمانها الذي تمت مواراته الثرى في مقبرة مخيم قلنديا.
طالبة مجتهدة ومتفوقة كانت هديل، معدلها المدرسي لم ينخفض يوما عن 98%، فجل وقتها تمنحه لدروسها وواجبتها، تقول والدتها، "كانت شخصيتها جادة رغم صغر سنها، إلا أنها كانت مرحة وتحب اللعب"، كما كانت تحب تناول الطعام خارج المنزل والذهاب في رحلات واستكشاف محيطها، وتحب أيضا شراء الثياب ولها ذوقها الخاص بانتقائها.
"كانت تجد الدراسة شيئا مسليا لها، كانت هديل تدرس كثيرا ولم تكن تحب الأعمال المنزلية.. خطها كان جميلا جدا ومرتبا، كذلك رسوماتها، وكان لديها فضول مطالعة الكتب وقراءتها"، تقول والدة هديل.
بعد استشهاد شقيقها محمود وجيه (22 عاما) بتاريخ 28/تشرين ثاني/2013، أصبح حلم هديل أن تدرس الطب لتصبح طبيبة وتفهم كيف اخترقت الرصاصة رأس محمود وقتلته.
وتروي والدتها أنها وقبل أيام من استشهادها، أغلقت هديل باب غرفتها وحضرت مجددا شريط فيديو يوثق عملية قتل شقيقها الذي لم يربطها به علاقة أخوة فقط، فقد كان محمود يسعى ليعوضها مكان الأب الذي توفى وهي صغيرة، فكان يدللها كثيرا، ويحضر لها كل شيء، ويعطيها المصروف لتشتري ما تريد.
ولم يكن قد اندمل جرح مليحة من استشهاد نجلها بعد، حتى جاءها نبأ استشهاد طفلتها الصغيرة، لتعلق مجددا في دوامة فقْد أبنائها، "بكائي على فراق محمود لم ينته بعد حتى أفقد طفلتي هديل.. فقدت عقلي عندما عرفت الخبر ورأيت الفيديو على شاشات التلفاز"، تقول والدة الشهيدة هديل متمنية أن تعود للحياة مرة أخرى، "لم تشعرني هديل بأي شيء لم يكن لديها أي بوادر، أتمنى أن تعود وأسألها وأفهم منها ماذا جرى".
في شرفة المنزل تحضر والدة هديل جسدا بين أبنائها الحريصين أن يبقوا حولها، ولكن ذهنها هناك يسترجع كل ذكريات هديل، وكل التفاصيل المتعلقة بها وحولها، "أفتقدها في كل لحظة، عندي دخولي غرفتها، عند خروجي للشارع، عند دخولي للمنزل.. تركت هديل فراغا كبيرا فقد كانت رفيقتي وابنتي الوحيدة في المنزل بعد ان تزوجت شقيقاتها".
أشقاء وشقيقات هديل الخمسة عشر وأبناؤهم يفتقدونها أيضا كلما دخلوا المنزل، فهديل المرحة المدللة كانت تضفي جوها الخاص على الجلسات العائلية، "كانت تملأ علينا المنزل، وتعمل لنا جوا خاصا.. كان أبناء أشقائها ينتظرون عودتها من المدرسة يوميا، فقد كانت تحضر لهم الحلوى والشوكولاتة".
وتعلق إحدى شقيقتها، "كلما كنا نجتمع كانت تقول لنا مازحة دائما أنا الأجمل بينكم، أنا الأطول، أنا الأفضل... وهي فعلا كانت المميزة بيننا، كلنا كنا نحبها وندللها وخاصة أنها بعمر أبنائنا".
وتسترجع والدة هديل كل تصرفات ابنتها وما اعتادت أن تقوم به عند تكرار كل مناسبة، "عندما يعود الطلبة من المدارس أفتقد عودتها ودخولها للمنزل، وأسئلتها المعتادة: (ماذا طبختي اليوم؟ لماذا لم تنه أعمال المنزل حتى الآن؟ ماذا أفعك بك الآن)".
15 عاما إلى الوراء تعود مليحة بذاكرتها عند ذهابها للمستشفى ووضع مولودتها، "كانت ولادة صعبة جدا فقد ولدتها بعد أيام قليلة من اعتقال شقيقها الكبير لتزوره في السجن وهي تبلغ من العمر أسبوع واحد، ثم زارت فيما بعد وقبل أن تكمل الست سنوات ثلاثة أشقاء لها داخل سجون الاحتلال".
خزانة ملابس هديل تكاد اليوم تفرغ من ملابسها إلا من بعض القطع التي لم ترتديها سوى مرة واحدة قبل استشهادها؛ فوالدتها قررت أن تهديها للمحتاجين واليتامى، تيمنا بمدللتها التي كانت قبل استشهادها تحرص على مساعدة كل من يحتاج، فيما تحتفظ بكتبها وأوراق امتحاناتها تقلبها مرارا وتكرارا، وتشم ما علق بها من رائحة هديل.