شبكة قدس الإخبارية

الشهيد عابد: سيكون عرسي مختلفا وزفتي ليس لها مثيل

شذى حمّاد

رام الله – خاص قُدس الإخبارية: تنزل درجات المنزل، درجة درجة بحذر، بينما يواصل هو التحديق بها وكأنه يراها أول مرة، "يما تعالي أوصلك"، ترد عليه، "تسهل يما، دار خالك قريبة"، يصر عليها مجددا فتركب.. "سوق شوي شوي ياعابد"، متمنية في نفسها أن تطول الطريق وتقضي مزيدا من الوقت معه؛ تتوقف السيارة ويودع عابد والدته بجملته الأخيرة، "ارضي علي يما، ارضي علي".

إطلاق نار يخترق الهدوء الذي سكن قلب سهام حامد منذ الصباح، ثم يصلها سريعا نبأ استشهاد نجلها عابد رائد حامد (19 عاما) بعد تنفيذه عملية دهس في بلدة سلواد شرق رام الله.. لاحقا؛ تودع ابنها بالزغاريد كما كتب في وصيته "ارضي علي يما، ولا تبكي علي".

قبل يوم من استشهاده؛ استصدر عابد جواز سفر فلسطيني كما أبلغ والدته التي أوهمها أنه سيسافر بحثا عن مستقبله في الخارج، لكنه سافر بعيدا عنها إلى الأبد. تعود بذاكرتها لعدة أيام قبل استشهاده حيث اتصل يداعبها كعادته، "متى يما بدك تزوجيني؟" فأجابته، "لسه يما في أخوة اثنين قدامك، بس نفرح فيهم"، أعاد سؤاله، "يما بحكي جد؟"، فأجابته ممازحة، "خلص اليوم بس ترجع من الشغل".

تفكر والدة عابد في نفسها، "لماذا لم أقل له يوم الجمعة عرسك؟!.. كنت أتمنى يتصل مرة ثانية، واحكيله يوم الجمعة عرسك يا عابد".

أريد أن استمتع بالحياة

ذو قلب طيب، مرحا، ضحوكا، محبا للأطفال، مطيعا لوالديه، هكذا كان عابد حتى أصبح الابن المميز بين ثمانية أشقاء، "كان يتصل علي كل يوم يسألني إذا كنت أريد منه إحضار شيء، ولما كنت أطلب منه كان يأتي بالضعف ... لم يكن يرفض طلبا لوالده ويقول له حاضر دائما"، تقول والدته سهام.

وتضيف، "كلما خرج للعمل كان يقول لي ارضي علي يما، أوقف على الباب وأضل أرضى عليه حتى يبتعد فلا أراه"، مبينة، أنه في الشهر الأخير زاد اهتمامه بنفسه وكان كل أسبوع يشتري ملابس جديدة ويقول أريد أن استمتع بالحياة، كما كان حريصا دائما على رش نفسه بالعطر، فيقول له أشقاؤه مازحين، "يا عابد ريحتك وصلت آخر الشارع".

في الثالث من كانون ثاني، حرص عابد أن يكون في طليعة التشييع الجماهيري للشهيدين انس حماد ومحمد عياد منفذا عمليتي الدهس عند مدخل البلدة، مشاركا في حمل جثمانيهما حتى تمت مواراتهما الثرى في مقبرة شهداء البلدة، "كان سعيدا ومرتاحا جدا عندما عاد، وحدثنا كيف حمل جثمان الشهيدين دون تعب، ومن حينها والشهداء لا يغيبون عن أحاديثه"، تقول والدته، مؤكدة أنه ومن ذاك اليوم انغرست الشهادة في دمه.

حتى اللحظة الأخيرة.. "بحبك"

"بحبك" قال عابد لشقيقته رلى قبل دقائق من عمليته، ثم بعث لها رسالة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، تقول رلى، "دائما يتصل علي ويقولي انا بحبك، انتي أمي بعد أمي ... لا أنسى هذه الكلمات أبدا"، مضيفة، "كان حنونا جدا ويميزني عن أشقائي ويزورني دائما ويحضر لأبنائي الشوكلاتا".

وتروي رلى، أن عابد كان حريصا دائما على تجنيب والديه التعب، حتى أنه كان يرسل ملابسه للمغسلة في البلدة، "قبل استشهاده أرسل بدلته الرسمية للمغسلة، أمي سالته إذا كان يتحضر لمناسبة ما، فقال لها أنه يريد أن يكون جميلا ونظيفا ومرتبا كل يوم".

وكان عابد يحدث والدته وشقيقته عن عرسه الذي لم تشهد له البلدة عرسا مثله سابقا، "كان يقول لنا سأتزوج وستكون لي زفة لم تكن.. أمي كانت تمازحه وتسأله من ستكون عروسه، فكان يجيبها عروسي ليست من هذه البلاد".

ولم يكن يمضي يومٌ دون أن يرسل عابد لشقيقته المتزوجة خارج البلدة رسالة يطمئن بها على حالها، "كان يبعثلي كل يوم (بحبك يختي)، (صباحك حب وسعادة يختي)... كان يبعثلي أشعار وأمازحه، لو أني خطيبتك ما أرسلت لي هذا الكلام".

12735597_1574269872893566_510161119_n

12767275_1574269889560231_1794404055_n

وكان عابد زار عمته قبل يومين من استشهاده، وحدثها أنه يتمنى أن يجمع كل العائلة في المنزل، تقول شقيقته، "لم نجد كلامه غريبا، فهو اجتماعي جدا ويحب اللمة والعائلة... وها نحن اليوم مجتمعين على فراقه".

(11 عاما) مرت دون أن يتلقي عابد بشقيقه الأكبر غسان الذي يقضي حكما بالسجن (17 عاما)، قبل أن يسمح له الاحتلال بزيارته للمرة الأولى في شهر كانون أول الماضي، حيث لم يتعرف الشقيقان على بعضهما البعض، ومضت الزيارة الأولى بدموع لم تتوقف حتى استشهاده، حيث طلب غسان من عائلته أثناء التشييع وضع سماعة الهاتف على أذن عابد، ليودعه دون أن يسمع ردا.

صعود الجبل

مساء يوم الخميس، اجتمع عابد بأصدقائه وطلب منهم صعود الجبل، "أخبرناه أن الوقت متأخر وجيش الاحتلال يكون منتشرا في المنطقة، وأقنعناه باستكمال سهرتنا في أحد مقاهي البلدة، والتي كانت مكتظة جميعها"، يقول منتصر ثبتة عن آخر سهرة جمعته بصديقه، مضيفا، "قلت له أن يجب أن أعود للمنزل، فقال خليك بدي أشبع منك... وعدته أن نلتقي في اليوم التالي".

ويصف منتصر صديقه الشهيد، "كان مرحًا، ومحبًا للجميع، لا يُغضب أحدا، وكان حريصًا أن يراضي من يختلف معه، كما أنه خدوم ويحب مساعدة الجميع".

فيما يبين محمد شاهر أنه كان الصديق الأخير الذي التقى مع عابد قبل تنفيذه العملية، "كان عابد جالسا في سيارته قريبا من المواجهات ولم يكن على طبيعته.. قلت له: مالك لا تضحك ولا تسأل على الشباب.. فأجابني أن الليلة هناك حفلة"، سأله ممازحا إذا قرر أن يخطب دون أن يخبر أصدقاءه فأجابه، "هناك مفاجأة".

كان عابد منغمسا في كتابة وإرسال الرسائل إلى أقاربه وأصدقائه، ثم طلب من صديقه النزول من السيارة، "رفضت في البداية وحاولت معرفة ما به، إلا أنه قال سأعود بعد 5 دقائق.. نزلت من السيارة، وتسهل عابد لتنفيذ عمليته".

أما صديقه أحمد عبد الكريم، فلم يستطع أن يحضر جمعة الأصدقاء يوم الخميس ويرى عابد، ماجعله يلوم نفسه متندما على تلك الساعات الأخيرة التي لم يجتمع فيها مع صديقه قبل استشهاده، مخنوقا محاولا مسح دموعه التي لا تتوقف، "أنا ندمان لأني ما رديت على عابد وما سهرت معه".

"طيبته كطيبة الأطفال"، يصف أحمد صديقه الشهيد، مضيفا، "كان يحب أن يجتمع معنا ونمزح سويا، وإن لم يرانا كان يرسل لنا رسائل كل ليلة... كان قلبه طيبا، لم يرفض لي طلب يوما ما".

ويبين عمر حامد قريب وزميل عابد في العمل، أنه رآه ظهر يوم الجمعة يتجول داخل البلدة فتبادلا التحية، ويقول، "يوم الخميس كان شارد الذهن، وهادئا جدا ولا يتحدث ويمزح كعادته" مضيفا، "لم يكن يتحدث عن الانتفاضة أو الأحداث، ولكنه خصص أغنية اخت المرجلة رنة لهاتفه".

ويروي صديقه محمد عياد، أن الشهيد عابد أخذه وأصدقاءهما في جولة في البلدة مساء يوم الخميس، كان خلالها يريد اللعب والاستمتاع بكل لحظة معهم، "طلب منا أن نلعب الشدة أو البلياردو، وطلب منا أن نصعد الجبل.. إلا أننا لم نكن بمزاج اللعب وبقينا نسهر معا".

ويضيف محمد، أنه غادر السهرة مبكرا تاركا عابد في المقهى، "أصر على أن أبقى ولكني قلت له أنني أريد أن أتعشى.. طلب مني ان نتعشى معا، لكني رفضت وأخبرته أنني سأراه غدا... يا ليتني عدت وتعشيت مع عابد ولم أتركه تلك الليلة".

تجدر الإشارة إلى أن عملية الشهيد عابد تعتبر الثالثة من نوعها بنفس الطريقة وفي يوم جمعة أيضا عند المدخل الغربي لبلدة سلواد خلال الانتفاضة الحالية، حيث نفذ الشهيد أنس حامد عملية دهس بتاريخ (4/كانون أول)، ثم نفذ الشهيد محمد عياد (18/كانون أول) عملية أخرى، وقد وقعت العمليات الثلاثة خلال المواجهات الأسبوعية عند مدخل البلدة.

12443925_590586671098181_1149876815_o

12754879_590587047764810_1094131968_o 12755339_590586487764866_2000385325_o