هنا، تحت منزلي وسط العاصمة الألمانية برلين أنفاق عسكرية.. لا عجب، فبعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، خلفت وراءها عديدًا من الأنفاق التي استخدمها النازيون أثناء الحرب العالمية لأغراض عسكرية، ثم تعافت ألمانيا من أثر الحرب التي طحنتها طحنًا مبقية بعض المعالم ظاهرة وباطنة.
وتعتبر هذه الأنفاق هي صلب موضوعنا اليوم وهي من المعالم التاريخية الباطنة، وبابًا من أبواب السياحة العامة التي يقصدها طلاب المدارس والكليات من سائر مدن ألمانيا والبالغ تعداد سكانها 82 مليون نسمة.
ولا أخفي أنّ اهتماماتي الثقافية والإجتماعية المتعلقة بقضية فلسطين، أرسلتني إلى غزة حالمًا للحظات، أتساءل عن مصير أنفاق المقاومة بعد التحرير، متفائلا بإمكانية الاستفادة من تجارب الآخرين مسخرين كل فكرة عشناها نحن اللاجئين في دول الشتات لخدمة وطننا المحرر قريبا بإذن الله.
ولا سيما أن التجربة الألمانية رائدة في هذا المجال لذلك أخذني الإعجاب بما أسميه "استثمار التاريخ" على الصعيد السياحي ودعم الاقتصاد من هذه البوابة الهامة.
تشير الإحصائيات إلى أن عدد السوّاح يبلغ سنويًا 6 ملايين سائح من جنسيات ودول مختلفة، يأمّون العاصمة الألمانية برلين بغرض المعرفة أو المتعة، ومنهم من تراهم يتزاحمون أمام مداخل هذه الأنفاق في صفوف طويلة سواءً تحت الشمس أو المطر، ينتظرون وقت دخولهم ليطلعوا على إبداع العقل البشري الألماني وعظمة إنجازاته التاريخية.
من يزور تلك الأنفاق في برلين سينبهر بمدى شمولية التخطيط والهندسة، وذلك كونها مكانًا أشبه بقرية صغيرة من حيث حجمها وتفريعات طرقها وطول إمتداداتها، وطبيعة تجهيزاتها العسكرية وعياداتها الطبية، وكثرة وسائل الاصال المختلفة عوضا عن مخازن الطعام والدواء والسلاح، وكبر حجم مهاجع مبيت الجنود، وتنوع مكاتب إدارة الألوية وتعدد غرف قيادة العمليات، وبالتأكيد وفرة وسرية مخارج الطوارئ المتعددة الاتجاهات.
كل تلك المعلومات يجدها السائح في كتب الدليل السياحي وبلغات مختلفة، ترى فيها شرحًا وافيًا عن هذه الأنفاق، يذكرون تفاصيل كافية عن كيفية الحفر وعلله ومواقيته، وعن مدى الحاجة لها أثناء الحرب العالمية، وكيف أشرف خبراء عسكريون وعلماء الجولوجيا في اختيار المكان المناسب لحفرها في أكثر من منطقة في برلين، بل في أكثر من مدينة ألمانية.
كل هذا تم تحت غطاء السرية والكتمان - وذلك حسب الدليل السياحي - والتي ساهمت في الحفاظ على هذه الأنفاق طيلة مدة الحرب وما بعدها، وبفضل ذلك بقيت سليمة حتى يومنا هذا.
وما كان من بلدية برلين إلا أنها وضعت الخطط اللازمة لجذب السواح لزيارة هذه الأنفاق، ونجحت في جلبهم على مدار العام دون توقف، ليدر ذلك أموالًا في خزينتها، فتنعش إقتصادها وهي الأكثر فقرا ودينًا بين مدن ألمانيا.
ولأن عادة السائح هي الحرص على زيارة ومشاهدة الجديد والمميز في كل مكان يزوره، فإنه يتوجب على وزارة السياحة الفلسطينية وفي الحال أن تبدأ بأرشفة كل ما يتعلق بأنفاق غزة وتعمل على إبقائها سالمة لتكون فعلا من أهم معالمنا السياحية، مجهزة نفسها لما بعد التحرير والذي بات قريبا بإذن الله ولننسخ بذلك التجربة الألمانية الرائدة في هذا المجال.
وبما لا شك به، أن فلسطين بعد أن تتحرر سيقصدها ملايين الناس من كل فج عميق، سيقبلون عليها أفواجًا وفرادى باختلاف أديانهم ومعتقداتهم وتنوع أيدلوجياتهم الفكرية والثقافية، فلكلٍ وجهة يقصدها ويبتغيها، وعلينا أن نعمل من خلال الترويج والدعاية لجعل هذه الأنفاق أحد أهم المعالم السياحية ليزورها الناس ولتشكل مصادر دخل لخزينة دولتنا الفلسطينية لتستفيد منها الأجيال من بعدنا.
أنفاق غزة التي حفرت بأظافر الشباب وجبلت بعرق الباحثين عن الحرية ودمائهم تحت الأرض، هذه الأنفاق تشكل اليوم أزمة تحدٍ للاحتلال الذي بات عاجزا عن تدميرها أو اكتشاف أماكن وجودها وتفريعاتها ومدى اختراقها للأراضي المحتلة عام 1948، ستكون أعجوبة سياحية مستقبلا وذات مضمون معنوي كبير جدا لكل من سيزورها.
عندما يبدأ الناس بزيارة الأنفاق، ستكون حينها فلسطين تحررت من الاحتلال، وسنأخذ أولادنا أو أحفادنا إن كتب الله لنا البقاء حتى تلك اللحظة لنزورها مع الزائرين، لنحدثهم ونحن فخورون بإنجازات من قاوم الاحتلال الذي ترفضه كل الشرائع السماوية والقانونية الدولية، سنروي لهم ونحن نلعب معهم لعبة "متاهة الأنفاق" كيف حفروها أجدادكم بأظافرهم ليختلط التراب بدمائهم الزكية التي نزفت، وأرواحهم الطاهرة التي إلى السماء ارتقت، لتنالوا أنتم شرف حريتكم وعزتكم بعودتكم إليها أحرارا مكرمين.
وحينها سيخيم علينا شعور من البهجة والسعادة مما سينسينا شعور من حفروها ومعاناتهم والعقبات التي عايشوها من خوف وظلام وقلة الهواء والإعياء والجهد الكبير الذي بذل لنتمكن نحن اللاجئين من العودة إلى أرضنا التي تنتظر عودتنا ولننعم بحريتنا الكاملة.
سنزور الأنفاق وقد تحولت لمعلم سياحي وتاريخي عريق، وسنضحك بداخلها فرحا دون أن نعي وندرك كم بكى الرجال على من فقدوا فيها.
عندما نزور الأنفاق يجب أن لا ننسى أن الفرق كبير بين من كانوا يكتمون أنفاسهم بداخلها حتى لا يُفتضح أمرهم وهم يحفرونها، وبيننا نحن الذين جئناها زائرين لنصور أنفسنا صور سيلفي وسنكتب حينها من تحت الأرض على الفيسبوك معلقين عليها:
هنا أنفاق الحرية والكرامة، هنا غزة!
"يسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبا".