شبكة قدس الإخبارية

نبعدُ بفارق المجد عن قامتكم

هدى عامر

صورٌ هنا وهناك، سيلفي الوقفات، لافتات تلقى جانبا ما إن ينتهي موعد الوقفة ويرحل الحاضرون، فيما يبقى هو وحيدًا يصارع معركته التي بدأها باسم الحرية رافعًا شعاره "حرًا أو شهيدًا".

وليس هذا الشعار غريبٌ علينا، فنحن في فلسطين منذ الأزل نختزل خياراتنا في اثنين، إذ يرفع أطفالنا إصبع السبابة والوسطى متجاورين معًا حتى دون أن يعوا السبب الحقيقي لشارة النصر التي مثلّت ثنائية خياراتنا القطعية.

شعور بالعجز تملّكني وأنا أشارك في وقفة تضامنية مع الأسير محمد القيق بساحة وسط مدينة غزة، كانت قد أعلنت عنها مجموعة شبابية وشارك بها عددٌ من الصحفيين والنشطاء الشباب والفتيات الاعلاميات، غير أن هذا الشعور لم يكن آنيًا أبدًا ولم يكن بسبب الوقفة التي أكدت عجزنا.

في حقيقة الأمر، فان ثمة شعور داخلي منذ أيام قبل الوقفة يجعلني أعاف الطعام الذي كلما نظرت إليه تذكرت محمد الذي ترفع عن كل شيء لأجل كلمة يخشى كثيرون قولها، ومن أجل مسمى أحمله كذلك، ولمهنة نتشارك فيها سويا، فمحمد صحفي وأنا كذلك، وهذا يعني أنني معرضة لأكون مثله اليوم أو غدًا.

ولأن الحالة صارت أكبر مما يحتمل، وصوت فيحاء (زوجته) بدا مختنقا يائسًا في الفترة الأخيرة التي حادثتها بها، ولأنني كلما سألتها عن جديد قالت "لا جديد سوى السوء على صحته والاحتلال على حاله"، معقبةً "لا أمل"!. كانت كلماتها تعذبني كلما أغلقت خط الاتصال بالدعوات وابتسامة ورحت أكتب خبرًا صحفيًا عنه، في لحظةٍ شعرت فيها أنه أكبر من خبرٍ يومي سنعتاده!

قررت الإعلان عن اضرابي عن الطعام عند عودتي من الوقفة لكنني أجلتها لليوم التالي، وكان ذلك وبدأت المرحلة الجديدة، لم أكن أعرف بالضبط ما عليّ فعله لكنها رسالة يجب أن تصل، وربما كنت أعطي مخدرا لحالة العجز التي باتت تذبحني كلما نظرت إلى صورة طفله الصغير وهو يقبل صورته بينما تقول فيحاء"ابنه يريده حرًا لا جثمانًا".

ولأنني بكيته كما لو كنت أعرفه، وأنا التي ربما أبعد أغرابه عنه، لمجرد لمحة من خيال أنه سينطق الشهادتين وسنعلن خبر استشهاده خلال ساعات، وسنلعن انسانيتنا جميعا، وبتُّ أسأل نفسي كيف سنقبل بأنفسنا ونحن لم ننصره، كيف لنا أن نناظر بعضنا أو أن نلتقي عيوننا في المرآة ونحن متيقنين أننا خذلناه.

يا إلهي، ماذا لو استشهد محمد بالفعل؟!، لا مجال للبعبعة بكلمات الوطنية في اللحظة التي تعرف أنك لم تنصره أو تسانده، فلن ينفعك اليوم الهاشتاغ الذي ستطلقه "#محمد_شهيدًا" ولن يعيده إلى الحياة لتعتذر له كم كنت جبانًا مشغولًا خائفًا ومتخاذلًا، لقد رسبت في امتحانك الوطني والإنساني كذلك، فمحمد هذه الفترة هو "الوطن الإنسان".

ساعات تمر وأنا أناظر الأكل الذي أتمنع عنه كي لا يكون محمد وحيدًا، كي نصبح جزءًا من المعركة من التجربة ومن النصرة، لكنها أصبحت أيامًا وبدأت أشعرُ بتقلباتٍ فسيولوجية تنبئ بتعبٍ حقيقي، فالطعام هو وقود الجسد وبدونه تختل حركته، المعدة تتقلص، صداع شديد ودوار، مغص في البطن، وفقدان للطاقة وتعب وهزل عام، الساعات تمضي لا أحد يشعر، جولات التفافات المعدة تتزايد، وجعٌ حقيقي وانهيار بالفعل! ثلاثة أيام يا الله وخارت قواي،   ثلاثة أيام!

وكأني رأيتُ المعجزة، كان الأمر أكبر من امتناع عن أكلٍ، وأكبر من صومٍ وجوع وشهوات لتناول الطعام، أيقنت أنها معركة بحق، كما أنها لا تقبل أي مقاتل، فلا يصمد فيها إلا مقاتل عنيد صنديد اقتلع معدته وزرع الإرادة وقودًا يحييه.

لا سبيل لي بمجاورتك يا محمد، ولا مجال للتشبه فيك، وهذا لم يكن هدفًا من الأساس، لكنني أيقنت بالفعل أن كل محاولة للوقوف بجانب عظيم هي تأكيدٌ أكبر على أننا ما زلنا صغارًا جدًا، وأننا نبعد بفارق المجد عن الوصول لقامتكم.

أعترف أنني تعبت وأنني انهرت تمامًا، وأنني ضعفت وربما خذلتك مرة أخرى وتركت وحيدًا، لكنني كنت أسمع صوت قوتك يقول لي أنا أقوى من ضعفك ومن اهتزاز أمعائك ولن ينفعني جوعك، لكنك لم تدركك أنني لا أريد أن أواجه عجزي فيك أو أن أتركك وحيدًا، وحيدًا تمامًا إلا من مجدك العظيم.

أمس، كسرتُ إضرابي بتمرةٍ ببيت عزاء لأحد شهداء الأنفاق الذين ارتقوا بانهيار نفق بغزة، وعرفتُ أن قضايانا الوطنية مستمرة بين أسير وشهيد، وعلينا أن نكون أكثر قوة أمامها، كما تيقنت أننا أصغر بكثير من قاماتكم حقًا، وأنك أكبر منا بالفعل.