لم أفكر كثيرا عندما اتصل بي صديق يعمل في معهد الطب العدلي (الأستاذ طارق أبو جويد) كي أعد تقريرا عن مجموعة من الشبان، يتطوعون دائما لتكفين الشهداء بعد تشريحهم في معهد الطب العدلي ببلدة أبو ديس.
وكان الموعد الذي اتفقنا عليه لتصوير التقرير، وهناك في تلك البلدة الوادعة على أطراف العاصمة المحتلة والضاربة جذورها بالأرض الفلسطينية، التقينا بالعظماء، في البداية كان واحد وسرعان ما أصبحوا كثر، خلال ساعات لا يتجاوزن أصابع اليد كنت بحاجة لعيون عدة لأراقبهم، وعقل آخر يترجم ما أراه إلى مشاهد لم أرها حقيقة إلا في أفلام ليست مرآة بلورية لواقعنا. أول هؤلاء العظماء
** شهيدٌ فلسطيني لم يبخل بروحه من أجل أن يشرق الأمل يوماً ما على فلسطين لتكون كما عاشها أجداده، وأبت قطرات دمه الطاهرة إلا أن تسيل على حجارة المسجد الأقصى لترسم لوحة بطولية أخرى عنوانها #لن_نرحل.. “الشهيد مصطفى الخطيب من القدس”. والآخر ....
** أبٌ فلسطيني، يعتصر الألم قلبه ويخنق الحزن صوته، يصبر ويحتسب ويقف شامخاً كالجبال أمام جثمان نجله البكر، يراقب ويشرف ويساعد ويدقق ويتابع لحظة بلحظة من يشرحون نجله، يناقشهم في التفاصيل، ويسجل الملاحظات، ويقارن بين صور الأشعة ومواضع التشريح، قاوم بصلابة حتى الثواني الأخيرة لانتهاء التشريح ومغادرة الجميع بعد منتصف الليل..”والد الشهيد مصطفى الخطيب”. وبعده ....
** طبيبٌ فلسطيني، تعلم ليكمل لوحة الطب الفسيفسائية لفلسطين، لا يعرف لغة الوقت؛ بل لغة البحث عن الحقيقة وعن أسرار من حملوها معهم (الشهداء والموتى)، فهنا يشرح ويحلل ويقيم ويسجل ويستخلص النتائج من أجل تقديم قتلة الفلسطينيين للعدالة الدولية دون أن يكل أو يمل.. “الدكتور صابر العالول – مدير الطب العدلي”.
** متطوعون فلسطينيون، تركوا أشغالهم وعائلاتهم وجمعوا مالهم وتمترسوا خلف أبواب المشرحة في انتظار انتهاء التشريح؛ ليكرموا الشهداء بإلباسهم بعد غسلهم ولفهم بهويتنا وعنواننا وعزتنا "علمنا الفلسطيني" وحطتنا الرقطاء، يقرؤون القرآن لروحه ويودعونه وداع الإخوة والأصدقاء والأهل والأحبة.. “شبان جدعان من بلدة أبو ديس”.
** موظفون مخلصون ومسعفون مناضلون، لا ينظرون إلى ساعاتهم ولا ينتظرون انتهاء دوامهم، يقومون بواجبهم الوطني قبل واجبهم المهني، تركوا الغرف الدافئة ووقفوا في البرد القارس ليقدموا المساعدة، ويجهزوا الجثامين وينقلوها بعد انتهاء التشريح إلى المشافي لتوضع في الثلاجات تمهيداً للدفن في اليوم التالي..”الموظفون والعاملون في معهد الطب العدلي وجامعة القدس”.