شبكة قدس الإخبارية

ملحم والثأر!

شذى حمّاد

فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: بعد 192 ساعة من إعلان حالة الاستنفار في الأراضي المحتلة عام 1948، ومنع التجول في شوارع "تل أبيب"، وإخلاء المدارس، ونشر الحواجز العسكرية وعشرات العناصر الشرطية، اغتالت قوات الاحتلال الشاب نشأت ملحم منفذ عملية "ديزنكوف" في قلب "تل أبيب".

ففي قرية عرعرة بالمثلث الشمالي، حاصرت وحدات خاصة من قوات الاحتلال الشهيد نشأت في أحد المنازل، قبل أن يبدأ اشتباك مسلح  امتد لدقائق وانتهى باغتيال نشأت برصاصات استقرت في رأسه وصدره.

إثر ذلك ارتقى نشأت  (29 عاما) شهيدا، وهو قابض على سلاحه من نوع " فالكون" -  من صنع ايطالي وصل لـ"إسرائيل" عام 1994 - وهو ذاته السلاح الذي نفذ به عمليته في ديزنكوف وسط تل أبيب، والتي قتل بها اسرائيلي واصيب خمسة وصفت جراح أربعة منهم بالخطيرة.

ابرة في كومة قش

الباحث في العلوم الاجتماعية وفلسفتها خالد عودة الله يبين لـ قدس الإخبارية، أن تأخر وصول  الأجهزة الأمنية الاحتلالية للشهيد نشأت جاء بسبب أن هذه الأجهزة بنيت لتكشف عن التنظيمات والشبكات سواء كانت سياسية أو إجرامية، "عندما يصبح شخص واحد من يقوم بكل المهام من شراء أسلحة واستطلاع وبحث  يؤدي ذلك لتحييد القدرات الهائلة لهذه المنظومة من تنصت والاستماع".

"الذئاب الوحيدة" أو "ارهاب الأفراد"، هي المصطلحات التي يطلقها الاحتلال على منفذي العمليات الفردية، والذين يسببون إرباكا حقيقيا في صفوف أجهزته الأمنية، ويعلق عودة الله بأن الأجهزة الاحتلال تبحث في هذه الحالات عن إبرة في كومة قش، حيث لهذا الفرد حرية كاملة في تحركه وتنقله وهو ما يعطلها في الوصول إلى منفذ العملية، كما حدث في البحث عن الشهيد نشأت ملحم.

ويرى عودة الله أنه كان يمكن للأجهزة الأمنية أو المستوطنين اعتقال نشأت أو اغتياله في مكان العملية، إلا أنه انسحب بهدوء وبقيت أجهزة الاحتلال عاجزة من الوصول إليه لمدة ثمانية أيام، وهذا يرجع إلى أن الاحتلال يتعامل مع "تل أبيب" ومستوطنيها بحرص شديد، ما مكنها من العيس باسترخاء بعيدا عن المواجهة اليومية لتركز نخبة الوجود الصهيوني فيها.

ويضيف، "العملية صارت في بيئة اجتماعية معطلة لحد ما، وهو ما جعلهم يخجلون من أنفسهم بعد تنفيذ العملية وانسحاب المنفذ دون اعتقاله أو قتله".

نقطة تحول

القناة العاشرة الإسرائيلية كشفت أن محامي والد الشهيد نشأت هو من أبلغ جهاز المخابرات الإسرائيلي "الشاباك" بمكان وجوده، مضيفة، أن أحد أقارب الشهيد رآه وهو يدخل منزل في المنطقة، ليتصل على المحامي ويبلغه، والذي قام بدوره بإبلاغ المخابرات الإسرائيلية.

عائلة الشهيد ترفض الحديث لوسائل الإعلام الفلسطينية، فيما كشف الإعلام الإسرائيلي أن والد الشهيد – المتطوع في شرطة الاحتلال - من تعرف عليه بعد تنفيذه عملية إطلاق النار، وأبلغ سلطات الاحتلال عن هويته بعد العملية بساعات قليلة.

الناشط والأسير المحرر لؤي خطيب وهو جار قديم للشهيد نشأت قال في حديث لـ قدس الإخبارية، إن الشهيد كان بسيطا جدا، له علاقة محدودة مع محيطه وأفراد عائلته، مشيرا إلى أنه كان يعمل في دكان لبيع الخضار والفواكه، كما كان يعمل بشكل متقطع كميكانيكي.

وأوضح خطيب، أن الشهيد ملحم كان شخصا عاديا جدا حتى مقتل ابن عمه نديم ملحم (30 عاما) على يد أحد عناصر شرطة الاحتلال قبل عشرة أعوام. ففي (كانون الثاني/2006) أطلق أحد عناصر الاحتلال النار على الشاب نديم بعد اقتحام منزله واعتقاله من سريره، حيث اقتاده إلى ساحة المنزل وأطلق النار عليه.

وأصدرت محكمة الاحتلال في حينه، قرارا يبرأ الشرطي الاسرائيلي روبي جان، وقد اعتمدت على روايته أنه أطلق النار على الشهيد نديم دفاعا عن نفسه، على الرغم من أن الشهيد كان أعزلا ووحيدا وسط 10 من عناصر شرطة الاحتلال.

"أطلقوا عليه النار خلال تفتيش بمنزله بذريعة البحث عن سلاح، إطلاق النار على الفلسطينيين سهل جدا" يقول خطيب، مؤكدا، أن استشهاد نديم كان نقطة تحول في حياة الشهيد نشأت، في ظل تنكر عائلته.

محاولات ثأر

في عام 2007 اعتقل الشهيد نشأت بتهمة محاولة خطف سلاح أحد عناصر شرطة الاحتلال للانتقام لاستشهاد ابن عمه، وخلال جلسات المحاكمة التي خضع لها نشأت حاول مرة أخرى خطف سلاح أحد عناصر الشرطة بعد خنقه، إلا أن عناصر من وحدة "اليسام" سيطرت عليه، ليحكم عليه فيما بعد بالسجن خمس سنوات.

الشهيدان نشأت ونديم لم تربطهما علاقة القرابة فقط، بل كانا صديقان مقربان جدا حسب العائلة التي كانت تعتبرهما توأمان، ويشير خطيب إلى أن العلاقة التي نتجت بين نشأت ومؤسسات الاحتلال بعد قتل ابن عمه نديم أصبحت علاقة قائمة على الثأر والانتقام.

ظروف غير اعتيادية مر بها نشأت كانت كفيلة بتعبئته بالحقد على مؤسسات الاحتلال، والتي كانت آخرها الاعتداء عليه من قبل عناصر الاحتلال قبل شهر، حيث يبدو أنها استنفذت صبره ودفعته للتخطيط ثم تنفيذ عملية إطلاق النار.

الانتصار

بسلاحه الذي ما زال يعمل؛ وذخيرته التي حرص على عدم استنزافها، انسحب الشهيد نشأت من مكان العملية، ليزيد حيرة أجهزة الاحتلال التي سارعت لاتهامه بالانتماء لتنظيم "داعش".

ويبين الباحث خالدة عودة الله، أن الاحتلال بدأ الترويج للعملية أنها تنفيذ أحد عناصر "داعش" ساعيا للدخول لمنظومة محاربة الارهاب لتخفيف التوتر القائم بين "اسرائيل" مع الدول الأوروبية وخاصة فرنسا.

ويشير إلى أن الاحتلال تراجع عن تصريحاته الأولية، لكن بعض الفلسطينيين اقتدوا بالاستنكار الدولي للهجوم الذي شهدته صحيفة "شارلي ايبدو" وتبنوا هذه الرواية، مؤكدا، "بغض النظر عن كل تصريحات الاحتلال، مجرد استهداف شخص وتصفيته في داخل هذا السياق فهو مرتبط آليا بالسياق الاستعماري، ولا يقبل أي تفسير غير ذلك".

ويوضح عودة الله أن كل الإشاعات التي حاول الاحتلال تصديرها للمجتمع الفلسطيني حول الشهيد نشأت يجب ألا تربكه، مضيفا، أن العملية التي نفذها الشهيد جاء بوقت تحاول الأحزاب في الداخل المحتل ترتيب علاقتها بسلطة الاحتلال، وهو ما أدى للهجوم على صورة الشهيد وسحب الشرعية عنه.

القائمة العربية المشتركة وفي أولى تصريحاتها على عملية الشهيدة نشأت، وصفتها "بالعمل الإجرامي" الذي ليس له علاقة بالنضال الوطني، ويبين عودة الله أن عملية الشهيد نشأت كشفت أن النخبة الوطنية القومية الواعية في الداخل المحتل هي الأكثر "تواطؤا مع الاحتلال"، وأن ذلك أظهر كيف مرى ذواتنا، ويعبر عن الأزمة الداخلية التي استقتل لنوع الشرعية عن ما فعله الشهيد نشأت.

نشأت يتمرد على النخبة العربية

النخبة العربية في الداخل المحتل سعت لقمع أي تظاهرة أو تحرك يسعى لنقل فتيل انتفاضة القدس للداخل المحتل، فاستعانت بعناصر أمنية من إحدى الشركات الأمنية الخاصة لقمع تظاهرة سخنين المركزية.

ويوضح عودة الله، أنه يوجد تاريخ كامل من العمل العسكري في الداخل المحتل والذي يتم قمعه باستمرار، ما يظهر أي عمل عسكري أنه فطرة وعمل مستهجن ويتم طمسه، دون الحديث عنه في كتب التاريخ،" هذا الفعل جاء ليربك هذه الترتيبات والمصالح التي لن تحوله لنموذج، لأنها بذلك تتناقض مع ذاتها وتعلي من شأن المواجهة"، مشيرا في ذلك إلى عملية نشأت ملحم.

وأكد أن الاحتلال لن يستغل عملية نشأت لتصعيد سياساته، فمخططاته تنفذ على قدم وساق ولا تحتاج لمبرر، كما يسوق الكثيرون.

فيما يقول لؤي خطيب، إن الشهيد نشأت كباقي الشباب الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، ربما هم بعيدون عن أحداث الانتفاضة اليومية، إلا أن قلوبهم تلامسها، "كيف لا وهم يعتبرون أنفسهم جزءا من النسيج الفلسطيني"، مؤكدا، أن للانتفاضة الحالية دورا كبيرا في التوجيه الوطني لشبان الداخل.

عشرات الشبان وفتية في البلدة وبعد انتشار نبأ استشهاد نشأت بدأوا بالهتاف، "بالروح بالدم نفديك يا شهيد"، وأعادوها مرارا وتكرارا بذات القوة والتحدي، ويعلق خطيب، "هذا المشهد الحقيقي لفلسطيني الأراضي المحتلة عام 48، هؤلاء الشباب الذين يمثلون بحق، وليست الأفواه المتحدثة يوميا على شاشات وسائل الإعلام".