هناك على أرض فلسطين، حيث جُبلت الأرض بدماء المجاهدين.. أولئك المجاهدين الذين رسموا بأناملهم طريق التحرير و العودة، تلك الأنامل التي زرعت الموت الزؤام يحصد أرواح الغاصبين المحتلين. يحيى عياش أسطورة العمليات الاستشهادية والمهندس الذي زلزل قلب الكيان الصهيوني وجعلهم يرون الموت في كل مكان.
رثاه الدكتور الشهيد عبد العزيز الرنتيسي بأجمل الكلمات:
"عيّاش حيٌ لا تقل عياش ماتْ
أو هل يجف النيل أو نهر الفرات
عيّاش شمسٌ و الشموس قليلة
بشروقها تهدي الحياة إلى الحياةْ
عياش يحيا في القلوب مجدداً
من لي بمثلك صانعاً للمعجزات؟
إنْ غاب مقدامٌ سيخلفه مئاتْ..."
"المهندس، الثعلب، الرجل ذو الألف وجه، العبقري، الفكر، و العقل"، ألقاب أُطلقت عليه من قبل إعلام العدو و قادته، عياش كان بنظرهم العقدة التي لا يوجد لها حل، شهد له العدو قبل الصديق، و لم يتوقف الرعب الذي زرعه المهندس في قلوب الصهاينة أنفسهم بل ظهر ذلك جليا في وسائل إعلامهم و لى لسان قاداتهم الأمنيين والعسكريين قبل السياسيين، حيث بلغ الهوس المجتمع الصهيوني من رأسه إلى أخمص قدميه.
هذا الهوس يبدو واضحا في قول إسحق رابين رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي الأسبق: "أخشى أن يكون عياش جالساً بيننا في الكنيست"، مضيفاً: "لا أشك أن المهندس يمتلك قدرات خارقة لا يملكها غيره، و إن استمرار وجوده طليقاً يمثل خطراً واضحًا على أمن إسرائيل و استقرارها".
وقال شمعون رومح أحد كبار العسكريين الإسرائيليين: "إنه لمن دواعي الأسف أن أجد نفسي مضطرا للاعتراف بإعجابي و تقديري بهذا الرجل الذي يبرهن على قدرات و خبرات فائقة في تنفيذ المهام الموكلة إليه، و على روح مبادرة عالية و قدرة على البقاء و تجديد النشاط دون انقطاع".
أما وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي الأسبق موشيه شاحاك فقد قال: "لا أستطيع أن أصف المهندس يحيى عيَّاش إلا بالمعجزة؛ فدولة إسرائيل بكافة أجهزتها لا تستطيع أن تضع حدًّا لعملياته التخريبية".
وبدوره رئيس المخابرات الإسرائيلي الأسبق يعكوف بيري أقر أن عدم القبض على المهندسِ يمثل أكبر فشل ميداني يواجه المخابرات منذ إنشاء "دولة إسرائيل".
وحذر بخوف رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست قائلا: "يجب أن لا ننسى أن المهندس خلف وراءه جيلاً شابًا من المهندسين الذين تعلموا منه نظرية تصنيع المتفجرات، و لذلك يجب أن نستعد جيدًا لمنع العمليات الانتحارية و مواصلة نشاطات تصفية تلاميذ المهندس في الضفة الغربية و قطاع غزة".
يحيى عياش الذي ينحدر من عائلة فلسطينية محافظة من قرية رافات جنوب غرب مدينة نابلس، ولد عام 1966، وكان متميزًا منذ طفولته بتحقيق الدرجة الأولى في جميع مراحله الدراسية، حصل على بكالوريوس في الهندسة الكهربائية من جامعة بيرزيت في مدينة رام الله، تزوَّج بعد تخرجه من ابنة عمته، و رزقه الله ولده البكر "البراء"، ثم "يحيى" قبل استشهاده بأسبوع تقريبًا.
كان المهندس يتمتع بالغموض والسرية المطلقة، يعرفه ويحبه الجميع ولكن ما يدور برأٍسه لا يعلمه إلا القليل، فقد كان دائم الحذر و يتخذ كل التدابير الأمنية في تحركاته، يقوم بتغيير شكله تارة، و تزوير هويته تارة أخرى، حتى دوخ العدو الصهيوني و أرق أجهزته الأمنية مما جعل اسمه في أعلى قائمة المطلوبين الأمنيين و أخطرهم و المطلوب رقم واحد.
وخلال الانتفاضة الأولى عام 1987 التي اندلعت شرارتها في قطاع غزة عقب قيام سائق شاحنة إسرائيلي بدهس مجموعة من العمّال الفلسطينيّين على حاجز إيريز، انضم عياش إلى حركة حماس منذ انطلاقتها و بدأت عبقريته جلية عام 1992م بعد أن أحدث منعطفا في تاريخ الصراع مع الكيان الإسرائيلي من رمي الحجر إلى إعداد السيارات المفخخة و العبوات شديدة الانفجار و إرسال الاستشهاديين.
كان عياش أول من صنع عبوة متفجرة محلية عام 1992، ما بناه و أسسه لم يضع سُدىً، فقد أسس كتيبة كبيرة من الاستشهاديين، بالإضافة إلى مدرسة خرجت طلابا في كافة أرجاء الوطن فلسطين.
مجاهدون ساروا على درب العياش و إخوانه، صانوا الأمانة و نجحوا في إكمال المسيرة رغم غياب القائد عنهم، قاهرين الجيش الذي يدعي أنه لا يقهر، يخططون ليلًا نهارًا من أجل إعادة الوطن السليب، و طوروا وسائلهم و أساليبهم فأصبح للصاروخ مداه وللنفق رعب زرعه المجاهدون بعمق الكيان.
لكن كتب لكل بطل نهاية، فبعد أن نجا عياش من عشرات محاولات الاغتيال، وبعد أن انتقل من الضفة إلى قطاع غزة ناقلا معه تجربته الفريدة، استطاع عميل ايصال العدو إلى حلمه، من خلال وضع عبوة ناسفة تزن 50 جراما في هاتف نقَّال يضطر المهندس لاستخدامه أحيانا، فكانت كلمته الأخيرة "كيفك يابا"، عبوة مع صغر حجمها استطاعت أن تهمش رأس المهندس الأول الذي دمر نفسية العدو و شتتهم سنوات وزرع الموت في كل تفاصيل حياتهم، هذا العقل الذي خطط للعديد من العمليات الاستشهادية و قتل العشرات وجرح المئات.
عياش ما زالت كلماتك خالدة في كل نفس مقاوم و مجاهد يا من قلت يوما: "مستحيل أن أغادر فلسطين، فقد نذرت نفسي لله ثم لهذا الدين، إما نصر أو استشهاد، إن الحرب ضد الكيان الصهيوني يجب أن تستمر إلى أن يخرج اليهود من كل أرض فلسطين"، كلمات قالها ورددها المهندس و رددها من بعده تلامذته فعياش حي لم يمت، وكما انتقم عياش لاغتيال عماد عقل، جاء بعد استشهاده حسن سلامة بعمليات الثأر المقدس انتقاما للمهندس.
عشرون عاماً و عياش لم يمت، عشرون عاما والفلسطينيون مازالوا في ذكراه يتغنون باسمه، وهاهم الآن يرددون: "عياش قادم".