لم أعِ شيئًا سوى أن جميع طالبات المدرسة يصرخون، وحالات الاغماء تتناثر هنا وهناك، وبت حيرى أخرج من بوابة المدرسة أم أبقى بداخلها، وأمام ترحيل الطالبات من إدراة المدرسة قررت أن أغادر، قلبي يخفق بشدة، هل أهلي بخير، هل جميعهم على قيد الحياة؟، مررت ببيت خالي الحبيب سعيد ورأيت أن المنزل بخير والجميع خرج إلى بيت جدي.
وصلت إلى البيت وسط براكين من الدخان وكأن يوم البعث قد حان، الكل يجري ويتخبط والبكاء سيد الموقف، وجدت أمي متسمرة أمام التلفاز، تبكي بمرارة وتستغفر، وأخوتي حولها يتحلقون وهي تطبطب على هذا وتطمئن على ذاك، الجميع بحمد الله كان بخير، وأقاربي كلهم بخير ولم يصب أحد بأذى إلى الآن.
أمضيت الأيام وأنا محتارة جدًا؛ هل أكمل دراستي أم أني سألقى حتفي مثل مئات الناس من حولي وجيراني، فالاحتلال اقترب جدًا من المنطقة، وأصوات الانفجارات ويكأنها تعانقني في كل لحظة فلا تدعني أغمض جفنًا أو أفكر في أي شيء، وعبثًا كنت أحاول أن أتناسى ما حولي وأدرس.
في الأيام الاخيرة، قابلت محمد ابن خالي الذي طلب الاستحمام في بيتنا لأنه مشتت حتى اللحظة ولا مكان له معين، كونهم غادروا المنزل، تناول الطعام على عجل وكأنه يستعد إلى الرحيل، طمأننا أن الجميع بخير وأن القادم أفضل بإذن الله، ولم يكن الوضع ليحجز ضحكاته عن الخروج ومشاغباته التي لا تفارق مجلسه.
في اليوم ذاته، جلست في مظلة البيت مرتدية ثوب الصلاة وبت أمسك الكتاب وأقلب صفحاته، وتارة أخرى أطيل النظر إلى السماء وأعد الطائرات التي في الأجواء، زادت عن عشرة طائرات وأكثر.
حدثت نفسي ما الخطب؟، ماذا هناك، يبدو الأمر غريبا جدًا، أمعقول أن طائرة وحدة أو اثنتين لا تكفي! أذّن العصر وقلبي لا زال يعارك نفسه وكأنه في حرب ضروس لا يهدأ، آثرت الصلاة عاجلا علني أهدأ مما أعانيه من اضطراب لا خوف، صليت وسجدت طويلا أدعو الله أن يهديني سبيل الرشاد، وأن يمنح قلبي هدوءًا وصبرًا وشهادة.
جاءت جارتنا كي تنسى همومها وتتسامر معنا، ما أن جلست فإذا بصوت لا أنساه مهما حيين، كان شديدًا للغاية ، فزعت بشدة وقفزت مسرعةً على بوابة المنزل، الزجاج تحطم، هل هو قصف إلى جانبنا أم ماذا ؟!
قفت على الباب، وأخذت أسال الجيران ماذا هناك، أحدهم يخبرني أن هناك شهداء وجرحى ورؤوس متطايرة، وآخر يقول لا تقلقي هو بيت لآل صيام ولكن الجميع خرج، لم أقتنع بما أسمع، وعاودت السؤال، أقبل عليّ صديق كبير لوالدي وقال لي،" يا عمو الله يرضى عنك فش اشي ان شاء الله بس إنتِ فوتي وارتاحي، وخدي هادي الامانة خليها معك"
مددت يدي فإذا هو ألبوم محترق نصفه، فتحته بسرعة فإذا بالبوم كامل لصور عائلة خالي، صدمت جدا وامتصصت الصدمة علها لا تتجاوز حلمًا فقط. خرجت على عجل إلى بيت جدي، رأيت الجميع صابرًا ويحتسب ومنهم من يبكي، سألتهم ماذا هناك، وقفت إلى جانبهم على شاشة التلفاز ورأيت خبرا صاعقا بأن المستهدف هو "وزير الداخلية"
غير معقول يا الله، بكيت، فجاء أحدهم يخبرنا أن "سعيد صيام" قد استشهد ومحمد قد استشهد أيضًا، واياد برفقة زوجته قد استشهد، ومحمد الأخر كذلك قد استشهد.
هو شيء لا يدركه عقل من الألم والحزن، مددوا أكفانهم أمام أعيننا ونحن نتشبث بهم وبتقبيلهم، لا أريدهم أن يتركونا، هم كل شيء، يا الله لا شيء ينطق يعادل الحال. بعدها، لم يعد للحياة طعمًا سوى اشتهاء اللحاق بهم، كانوا الحياة، فماذا يكون طعم الحياة بعد أن فقدت اجملها وأروعها!
* في ارتقاء الشهداء سعيد محمد صيام، محمد سعيد صيام، اياد محمد صيام، محمد صيام، سماح الخضري.