غزة – خاص قُدس الإخبارية: ما بَينَ شمال وجنوب تاه المتيم في وطنه واهتدى لماضيه بآثاره، الأرض التي لا يعرف ابنها غبُار ماضيها وتفاصيل انحناءات الزمن عليها، فهو ابنٌ تائه لن يجد لحريته وحرية وطنِه مآل، ليحمل القلم وليرسُم التفاصيل حروفًا وليصنع صُورة لا تُنسى.
مع إشراق الشمس، وجلاء ظُلمة الليل، شد الرّحالة أوراقهم و كاميراتهم في رحلة بدأت من جنُوب غزة إلى قلعة برقوق في خانيونس. تقف في منتصف السُوق تبحث عن قلعة مشيدة وجدران محصنة فلا ترى من ستة عشر دونماً إلا مئذنةً عاليةً وجدارٌ ملامحُه تؤكد لك أن عُصوراً وعصُوراً قد مرت عليه، تبحث عن التفاصيل التي تاهت مع الزمن، الحروف الضائعة على الجدران بما خطه السابقون.
[caption id="attachment_73183" align="aligncenter" width="600"] قلعة برقوق[/caption]هُنا تقف على أطلال آثار ما تبقى من القلعة إلا جدار وجزء من غرف مهدمة، والتي كانت من قبل خانًا للمسافرين وعابري الطريق بين دمشق والقاهرة، حينما كانت هذه الأرض خالصة للمسلمين.
ومن الخان إلى المقام، يقودك خيالك إلى مكان أثري محاط بإضاءة خفيفة وسجاد مفروش، بعض الشموع المضاءة وقليل من الناس تتجالس في المكان للعبادة، ولكن مقام الخضر في دير البلح يشكو الزمان وما حال به كانت الوحشة تسكنه، وجدرانه المشققة تخبرك عن تفاصيل تائهة عبر الأزمان.
محاولات السُكان وبعض الناشطين كانت مجدية قليلًا في ترتيب المكان وتنظيفه ومحاولة إيجاد مساحات للزوار، بالتأكيد لهذه الأماكن قدسيتها وعراقتها وهنالك مشاريع لترميمها في القريب العاجل، وهذا ما يسعى له المركز إيوان منذ إنشائه، بعضٌ من أمل وضع هنا.
وفي زيارة سريعة لأم عامر، بالطبع هي ليست سيدة كما يخيل إليكم، بل اسم لتلة تقع في النُصيرات، وهي دير قديم للقديس هيلاريون، سميت بذلك بسبب تجمع الذئاب فيها، على امتداد نظرك لن تجد بناءً كبيرًا أو جدران مقامة، فالمكان عبارة عن حجارة صامته تروي تاريخ قديمًا تم سرقته من قبل الاحتلال حينما كان يجثم على صدر غزة. ستدهشك هنالك بقايا اللوحات الفسيفسائية الملونة والتي حافظت على شكلها رغم قدُمها، كُل لوحة تروي حقبة مختلفة وأديان مختلفة مرت عليها. ستجد بعض المحاولات للحفاظ على المكان ببعض المدعمات، حتى رجل الأمن هناك يملك من المعلومات ما قد يدهشك، تحتاج لساعات وساعات وأنت تستمتع له.
[caption id="attachment_73181" align="aligncenter" width="600"] تل ام عامر[/caption] [caption id="attachment_73182" align="aligncenter" width="600"] فسيفساء في تل ام عامر[/caption]ومن الجنوب إلى غزة حيث البلدة القديمة الزاخرة بالماضي والعراقة، في منتصف السوق الشعبي لها تتركز أقدم آثار غزة، فإن اتجهت جنوبًا اندهشت بالمباني القديمة ذات الجدران البُنية والتي تزينها الأشجار الخضراء، سيلفت انتباهك التقاء مئذنة مسجد ولاية بأجراس كنيسة برفريوس، لهذه الصورة معنى خاص تحمله غزة في تسامح الأديان خلال تاريخها العريق، الألوان والرسومات التي تزين الكنيسة والإضاءة الخافتة ستعود بك قرونًا شاسعة حينما كان المسيح هنا يومًا ما، جلالة وقدسية للزمن والدين والتاريخ يحمله هذا الشارع.
باتجاهك شرق البلدة القديمة عليك أن تترجل لأن الأزقة ضيقة، المنازل متلاصقة قديمة، بيت لعائلة عريقة كبيت السقا سيروي لك في تفاصيل جدرانه تاريخ عائلة عاشت هُنا، ساحتين حولهما الغرف يفصل بينهما درجين يصلان بك إلى الطابق العلوي، جمال المنزل يكمن في التفاصيل المنقوشة على جدرانه، أو شبابيكه المحفورة في حائط المنزل في داخلها فُخار أو ما شابه. اللوحة الفنية للمنزل رغم قدمه إلا أنها مكتملة بعد عمليات الترميم للحفاظ عليه.
[caption id="attachment_73180" align="aligncenter" width="600"] بيت السقا[/caption] [caption id="attachment_73179" align="aligncenter" width="600"] أحد البيوت القديمة في غزة[/caption]دع قدميك تتوه بين الأزقة من جديد ستصل لقصر حتحت الذي يشابه في تفاصيله منزل السقا وسُباط العلمي، ثم لتصلِ صلاة في مسجد عثُمان، ستسمع صوت الآذان يرفعُ من عصُور مضت، العجوز الذي يحرس بابه ستخبرك التجاعيد في وجهه عن تفاصيل الحياة سابقًا، العجوز جُزء من هذا المسجد سيعرف تفاصيل عائلتك، وسيعرف من أي بلدة أنت، سيخبرك من جدُك، لكن احذر هو عصبي بعض الشيء.
[caption id="attachment_73184" align="aligncenter" width="600"] قصر حتحت[/caption] [caption id="attachment_73178" align="aligncenter" width="600"] مسجد عثمان[/caption]صعودًا نحو الغرب قريبا من الشمال، ستقابل قلعة نابليون – قصر الباشا، عمليات الترميم جارية على قدم وساق، الحديقة الخارجية عصرية بينما القصر وجدرانه والعقود كل ذلك سيجعُلك تفكر ألف مرة قبل أن تزيح نظرك عنها، سوف تتسآل كم أمير وقف على باب القلعة وكم حرب خاضها ملك هُنا، لن يرد سوى الجدران الصامتة، فتمتعت بخيالاتك لوحدك.
[caption id="attachment_73177" align="aligncenter" width="450"] قصر نابليون - الباشا[/caption]تقدم قليلًا في زقاق يقع فيه أكبر مسجد قديم في غزة وهو المسجد العمري، ساحته الخارجية شاسعة، حولها الكتاتيب حيث يحفظ الأطفال و الشيوخ، لن تتوقف عن التأمل في تناسق العقود ( الأقواس) المتتالية بشكل مثير، ستحاول تتبع خطوطها حتى تصل إلى النهاية التي ستدخُلك للباحة الداخلية، بلا شك نور الشمس من فوقك سيجعلك تلقائيًا ترفع رأسك وترى جمال تسلل النُور في العتمة منعكسًا على سجاد المسجد، العمدان العملاقة والأقواس والزخارف وكل حجر في هذا المسجد ينطق رغم ما لاقاه من تدمير واعمار على مر العُصور، شهد من الحروب والفتوح ما شهد وبقي أثرًا سيرمز لتاريخ المسلمين في غزة.
[caption id="attachment_73176" align="aligncenter" width="450"] أقواس المسجد العمري[/caption]مهما شهدت غزة من الدمار و الفساد، ومهما نظر إليها الناس كمكانٍ يغطيه الرماد، إلا أن فيها من الماضي المُشرق الذي سيبث السعادة في قلبِك، وسيريك وجه غزة الجميل، الوجه الذي لا يعرفه كثير من أبنائها، إن غزة أرض الغزاة وإن تاهت ملامحها بسبب قصفِ أو سرقة لآثارها، إلا أن الأرض والتراث و التاريخ لا يمكن أن يهضم حقها، ولا يمكن لأي كان أن يزور أصالتها، الأرض التي حملت في جوفها عصُورًا من الرخاء وأخرى من الحَرب لا يمكن أن يُمر الزمان عليها فيُنسي أهلها أن يومًا ما كانت غزة معبر تجاريًا عالميًا، ومعبر لأمم شتى تركت بصمتها لليوم.