كانت جمعة الأمس ممتزجة بمشاعر الحزن والغضب بعد جريمة ارتكبها مستوطنون إرهابيون حرقوا فيها منزل عائلة دوابشة جنوب نابلس ما أدى إلى إستشهاد رضيعهم حرقا على شاكلة جريمة حرق أبو خضير. فعندما انتشر الخبر صباح الجمعة كان لزاما على "إسرائيل" اتخاذ موقف يخرجها من هذه الأزمة، يتكفل بتهدئة نفوس الفلسطينيين، وكبح ردات فعلهم، وتجميل صورة الموقف الإسرائيلي أمام العالم. فكيف استغلت وأدارت "إٍسرائيل "هذه الجريمة إعلاميا ؟
الإعلام الإسرائيلي كان في واجهة المشهد، فأصدر مصطلح ولفظ "عملية إرهابية" على الجريمة ووصف منفذي عملية الحرق بالإرهابيين الإسرائيليين، وبدأت تتوافد الأخبار والتصريحات السياسية من وسائل الإعلام الإسرائيلية التي "تدين" و"تستنكر" و"تشجب" و"تشمئز" حتى من عملية الحرق وإعدام الرضيع دوابشة حسب ادعائهم، وهو الأمر غير المسبوق، وركز الإعلام الإسرائيلي على ذلك في أغلب وسائله الإعلامية المؤثرة.
المتابع لوسائل الإعلام الإسرائيلية والإعلام الإجتماعي الإسرائيلي يجد أن هذه النوعية من الأخبار والتصريحات أصبحت شغلهم الشاغل ومن كثرة التعاطف مع الحادثة، وأصبحت هذه الوسائل تضاهي الوسائل الفلسطينية في تغطيتها للحدث، وذهبت "إسرائيل" إلى أبعد من ذلك حتى أن جيش الاحتلال وقيادته بعد "الإستنكار" الصريح والقوي للجريمة، سارع إلى عقد مؤتمر صحفي من أمام بيت الشهيد دوابشة للتأكيد على "استنكار" الجريمة المرتكبة والوعد بأنهم سيلاحقون الفاعلين، وهو الأمر الذي لم تبْرع به وتنفذه السلطة الفلسطينية صاحبة الشأن حتى ساعات متاخرة من يوم الجمعة.
ولم يقف الأمر إلى هذا الحد، ولكن بجاحة الإحتلال وصلت إلى أن يبادر نتنياهو ويهاتف الرئيس الفلسطيني أبو مازن ليخبره عن أسفه وعن نيته محاربة الإرهاب يدا بيد مع السلطة الفلسطينية، وكان ذلك بمثابة ردة فعل إستباقية من نتنياهو لتهدئة قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله في حال نوت اتخاذ خطوات تصعيدية. وفي نفس الوقت بعد كل هذه الإجراءات لتخفيف ردة الفعل الفلسطينية على الجريمة باشرت قيادة المناطق في جيش الاحتلال مباشرة بتحضيراتها الميدانية لردع الفلسطينيين في المظاهرات والإحتجاجات التي نظمت خلال يوم الجمعة، ما أدى بالنهاية إلى استشهاد فتا فلسطينيا في رام الله برصاص جيش الاحتلال خلال موجات الغضب.
الإعلام الإسرائيلي من جانبه نجح في تطبيق نظرية الرصاصة أو القذيفة السحرية بتحويل الخبر المفجع إلى إبرة مسكّن للفلسطينيين والمجتمع الدولي بإدانته للجريمة، وامتصاص صدمة الفلسطينيين بشكل خاص من خلال هذه التصريحات والمواقف التي لم نشهدها في أي من الإعتداءات التي نفذها المستوطنون في مناطق الضفة في أوقات سابقة، وتحديدا بنفس هذه الوتيرة من الشجب والإدانة. لكن نسبة الإمتصاص الذي يسعى له الإعلام الإسرائيلي كانت عالية هذه المرة بفعل قوة الجريمة المرتكبة، فارتفعت مباشرة وتيرة التصريحات والمواقف المنددة.
ومن خلال إدارة "إسرائيل" لهذه الأزمة بالشكل المعروض إعلاميا وسياسيا نجحت "إسرائيل" في تحقيق عدة أمور، أولا: أبعدت "إسرائيل" عن نفسها شبهة الإرهاب بصورتها الرسمية وأن حادثة حرق الرضيع عمل فردي لا يمثل الموقف الإسرائيلي الرسمي ولا حتى الإسرائيليين أنفسهم، وبدا موقف "إسرائيل" مقبولا محليا ودوليا. ثانيا: أسكتت بذلك بعض الأصوات الإسرائيلية الداخلية والخارجية من اليساريين ونشطاء حقوق الإنسان وغيرهم بأن "إسرائيل" تتفق معهم بالجرم الحاصل وهي بصدد معالجته. ثالثا: أما فلسيطينيا فقد نجحت "إسرائيل" بتخفيف الصدمة على الفلسطينيين، وخاصة أن غالبية ما ينشر في الإعلام الإسرائيلي أصبح يترجم مباشرة للعربية من خلال الفلسطينيين أو حتى المواقع الإسرائيلية الناطقة بالعربية التي بثت أخبارا تستجلب العاطفة عن حرق الرضيع، وبالتالي كانت ردود فعل الفلسطينيين الرسمية والشعبية متوقعة ولم تزيد عن حدها ومسارها المتوقع من وجهة النظر الإسرائيلية.
وبعد انقضاء يوم الجمعة بدأت المياه تعود إلى مجاريها، لأنه حسب الظاهر في وسائل الإعلام الإسرائيلية فقد تمت السيطرة على موجة غضب الشارع الفلسطيني إلى حد ما، ولم يكن هنالك تصعيد خطير سياسيا وعلى مستوى السلطة تخشاه "إسرائيل"، والجيش مسيطر على الميدان، والإحتجاجات حتى وإن استمرت لن تخرج عن طورها المتوقع ومسارها، والشرطة الإسرائيلية تحاول بكل ما أوتيت من قوة البحث عن الإرهابيين المنفذين حسب ما تدعي، لتقديمهم إن أمسكتهم إلى قاضي إسرائيلي رحيم، والشعب من طبيعته النسيان خاصة بعد موجة التسويف وإمتصاص الصدمة والتخدير هذه.
وستبقى دائما الكلمة النهائية "لإسرائيل" ما لم يكن إجراءات حقيقية وفورية على أرض الواقع تتخذها السلطة الفلسطينية ضدها، وتتفق عليها الفصائل الفلسطينية مجتمعة، لكن يبدو حتى اللحظة أن الفلسطينيين سلطة وشعبا لا يستطيعون تغيير شيء من الواقع دون إذن "إٍسرائيل”.