رام الله – قُدس الإخبارية: مُسرعي الخطى؛ غادروا منزله، دون أن تلتفت إليه نظراتهم مرة أخرى، ودون أن تلوِّح له أيديهم. الأعلام ما عادت مرفوعة، والحناجر ما عادت تردد "يا شهيد ارتاح ارتاح". خطابات الساسة انتهت بعد تأفف الحاضرين.
كلهم غادروا بصمت إلا ثلة من الأصدقاء أحاطوه، جلسوا بين القبور المتلاصقة القريبة، عيونهم تفحص التراب مرة وتقلِّب نظرها مرة أخرى على منزله، الصمت عمَّ المقبرة ولا كلام مواساة يُقال، وتصرخ ذواتهم بصمت "اتركونا مع صديقنا، يكفي سلبتم منا وداعه الأخير، اتركونا نبوح له بسر كتمناه عنه يومًا ما، اتركونا نستذكر وإياه بعض اللحظات التي عشناها".
أصدقاء تهافتوا ليحملوا صديقهم للمرة الأخيرة، كما استعدوا دومًا ليحملوه في يوم عرسه، أصدقاء تهافتوا لينثروا عليه التراب، لينثروه بلطف، حتى لا يخنقه، لا يؤلمه، لا يجرحه، تراب رحيم يسمح له أن يسمع كلامهم وآهاتهم واشتياقهم.
على عجلٍ؛ تركهم عبد الله إياد غنيمات (23) عامًا، دون أن يقول لهم "مع السلامة" كالعادة، ليصلهم نبأ استشهاده مدويًا، نبأ لم يصدقوه، ولن يصدقوه، ولن يعتادوا عليه. فقبل أيام فقط قال عبد الله لأصدقائه "أشعر أننا سنودع شهيدًا هذه الأيام"، إلا أنه أخفى إحساسه أنه هو قد يكون الشهيد.
"هو الآن بيننا، وسيبقى بيننا وقربنا، ولن يغادرنا بعد اليوم" يقول صديقه إياد حمايل وقد رفض خلع قميصه الذي التصق به دم صديقه الشهيد عبد الله، مضيفا،"لم يبقى كلامٌ ليقال، فعبد الله استشهد".
الشهيد عبد الله كان ينام بعين واحدة، فاقتحام القرية متوقع في أي ساعة، وفي قانون عبد الله "كفر مالك" كانت وستبقى عصية على المحتل، ولا اقتحام أو مداهمة تتم بالسهولة التي يسعى الاحتلال لفرضها، يعلّق إيّاد،"لم يكن عبد الله ينام، وكان دائمًا مستعدًا ليواجه أي اقتحام للقرية".
عبد الله قضى سنتين في السجن قبل أن يتحرر قبل أشهر قليلة، "عبد الله سُجن بالخطأ، كان من المفترض أن يستشهد زمان إلا أنه كتب له أن يعيش معاناة الأسرى"، مضيفًا، "الاحتلال أبعده عنا عامين، ولكنه ها هو اليوم حي سيبقى بيننا للأبد".
محمد بعيرات صديق آخر لعبد الله، بين الكلمة والأخرى يجهش بالبكاء، كما الكلام عن عبد الله والقدرة على الوقوف على القدمين لم يعد ممكنًا لمحمد، ليجلس على أحد القبور المجاورة لقبر عبد الله، وقد توقف دقائق عن الكلام قبل لملمته شتات قوته التي انهارت فجأة، ليقول بضع كلمات أخرى.
"عبدالله كان محبوب جدًا وكريم، لا أحد يستطيع يذكر منه فعل سيء، كلنا نحبه، كما كفر مالك تحبه"، يقول محمد، قبل أن يفقد البكاء القدرة عن الكلام نهائيًا.
فيما يروي محمد حمايل، صديق وقريب الشهيد، أن عبد الله حدّثه قبل أيام عن إحساسه باستشهاد أحد خلال هذه الأيام، "قال عبد الله إن الاحتلال لن يسكت عن المواجهات التي اندلعت قبل أيام، وسيعود وينتقم بقتل أحدنا".
وعن عبد الله الصديق، يقول محمد،" كان مرح جدًا ومحبوب، ونشيط وفعّال دائمًا، يشارك في كل المناسبات والفعاليات في القرية"، ويبين شبان القرية أنهم كانوا يزورنه يوميًا في عمله ليتمازحوا معه.
وأضاف محمد، "عندما خرج عبد الله من السجن، سعدنا كثيرًا وكنا دائما ندعو أن لا يتكرر هذا الاعتقال، وأن لا نفترق مرة أخرى".
المصدر: شبكة هنا القدس