يختلط الحابل بالنابل عند الحديث عن سقوط فلسطين عام 1948، وتتعالى الاتهامات بالخيانة أو على الأقل التقصير للجيوش العربية وقياداتها، وبعيدًا عن مرجعية هذه الاتهامات وإن كانت مبنية على معلومات موثقة أو مجرد روايات متوارثة، إلا أن ما تم إثباته ولا يعرفه الكثيرون ربما، هو وجود جواسيس تغلغلوا في صفوف هذه الجيوش، اكتشف العرب أمر بعضهم وفشلوا في اكتشاف البعض الآخر.
ووصل بين رجال جيش الإنقاذ عدد من اليهود الناطقين بالضاد والمنتمين لمصلحة الاستخبارات اليهودية، ولأنهم أتقنوا لغة البلاد فقد استطاعوا التغلغل في الصفوف وإقناع المقاتلين بأنفسهم، وكان منهم رجل يهودي ادعى بأن اسمه عباس آلياس، وأنه تركي جاء لفلسطين للمحاربة في صفوف المقاتلين العرب، وقد اشتغل كاتبًا في المحكمة المركزية وعمل بين المقاتلين لوقت غير قصير، حتى تم اكتشاف أمره مع عدد من الجواسيس الآخرين.
منظمة الآرغون الصهيونية التي شاركت بشكل كبير في عمليات القتل واقتحام المدن الفلسطينية، أرسلت بدورها عددًا من الجواسيس إلى الصفوف العربية، أبرزهم الجاسوس اليهودي الذي زعم أنه عربي يدعى يوسف شابيلا، وأنه كان ضابطًا في قوة الحدود، وأنه يعمل على تأليف كتاب يدعو فيه الناس لشد أزر العرب لأنهم على حق، وقد صدقه المقاتلون العرب فعمل بينهم فترة غير قصيرة، بل إنه وصل إلى مكتب الشيخ حسن سلامة وعمل سكرتيرًا له، قبل أن يتم التعرف عليه والتأكد من تورطه في تفجير عمارة الملك داوود لصالح الآرغون.
ومن جواسيس الآرغون أيضًا؛ يهودي من اليمن ادعى أنه من مسلمي اليمن ويدعى سليم الجاعوني، وقد تم اكتشاف أمره بعد مراقبته وهو يقود مركبة طافحة بالعبوات الناسفة ثم يتوقف أمام دار اتخذها الأخوان المسلمون مقرًا لهم بباب الساهرة في القدس، لكن المقاتلين الذين راقبوه ألقوا القبض عليه قبل تفجير المركبة وأعدموه.
كما استطاع يهودي أطلق على نفسه اسم لطفي يعقوب أن يصل إلى منصب مدير مطبعة الصراط المستقيم العربية، وقد ظل لثلاثة أشهر ينقل أخبار العرب أثناء القتال إلى جريدة حقيقة الأمر اليهودية، حتى تم اكتشاف أمره واقتياده إلى المحكمة العسكرية ثم إعدامه.
الإنجليز أيضًا كان لهم دور في التجسس على المقاتلين العرب، فقد مثل أمام آمر الحامية في أبو كبير بيافا رجل إنجليزي، ونقل إليه بعض المعلومات الملفقة عن اليهود زاعمًا أنه اطلع عليها بحكم مركزه، وخلال حديثه مع الآمر استطاع الحصول على خطط الدفاع العربية ونقلها للعصابات الصهيونية، وبعد أقل من ساعتين على خروجه من الحامية تعرضت المواقع للقصف والتدمير الكامل، وقد عرف العرب بعد خراب البصرة أن ذلك الإنجليزي كان جاسوسًا لكنهم لم يصلوا إليه.
كما كان لموظفي دار القنصلية البريطانية دور في التجسس وتقديم المعلومات للعصابات الصهيونية، حيث قال ضابط نيوزلندي الأصل يدعى نيومان إنه شاهد مرات عديدة شارات حمراء تنطلق من سطح دار القنصلية البريطانية القائمة عند مفترق الطرق إلى الشمال من باب العامود، وإن الطائرات اليهودية كانت تظهر في ذلك القطاع بعد ظهور الشارات، فتلقي قنابلها هنا وهناك، الأمر الذي حدا بكتيبته لتوجيه إنذار شديد الهجة إلى رجال القنصلية، كما يقول.
وتمثل وظيفة التمريض واحدة من المهن التي استخدمها اليهود للتجسس على الفلسطينيين والعرب، فقد زعم شاب يهودي أنه جاء من حلب وأنه ضل الطريق فوصل إلى يافا، وبرفقته فتاة يهودية قالت أيضًا إنها حلبية الأصل، وكان الاثنان يتقنان اللغة العربية، لكن لاحقًا تبين أنهما جاسوسان. كما تم اكتشاف أمر ممرضة عملت في مستشفى القدس وقد تقربت من آمر الحامية في القدس ثم من عبدالله التل القائد في الجيش العربي، حتى تم اكتشاف أمرها.
* تم توثيق هذه الحكايات في كتاب نكبة فلسطين والفردوس المفقود – تأليف عارف العارف