غزة - خاص قُدس الإخبارية: إلى الشرق قليلاً من ميدان فلسطين وسط مدينة غزة، يقع سوق "الزاوية" وهو من الأسواق التاريخية فيها التي يعود بناؤها إلى العصر المملوكي بجانب سوق القيسارية القديم، يبتاع فيه مختلف البضائع ابتداءً بالأغذية من خضارٍ وفواكه ولحوم ومستحضرات بيتية، وانتهاءً بمحلات العطارة والتداوي بالطب العربي القديم.
هذا كل ما تعرفه فتاة غزّية، عن "سوق الزاوية" الذي يسمى أيضًا "سوق الأساتذة" نظرًا لاقترابه من مدارس المراحل الأساسية لوكالة الغوث، وبالتالي فإنه مزار للأساتذة القادمين ذهابًا وإيابًا، كما يسمى كذلك "السوق الفوقاني" لأنه يرتفع عن مستوى الحي المجاور له "حي الدرج".
في مدخل السوق من جهة الميدان إلى الشمال بنحو 10 أمتار تقريبا، "بوابة دون باب" تعلن عن مدخل البداية لسوق الزاوية التي يتيمنها بائعو فاكهة ويسارها بائعو الألعاب والحلويات، ثم ما تلبث أن تتزايد الألوان على حسب اختلاف أنواع البضائع وأشكالها، لتعلن الأقواس القزحية دوامها اليومي.
كان السوق في بداياته مكانا تباع فيه العطارة والجلود إلى أن تطور تدريجياً وأصبح على ما عليه الآن.
واشتهر سوق "الزاوية" تاريخياً لوقوعه بجوار "سوق القيسارية" الأثري في البلدة القديمة والذي أصبح امتدادا له، في ظل التوسع العمراني في المنطقة.
ويسجل سوق الزاوية - القيسارية - كأحد المناطق الأثرية التي أقيمت في البلدة القديمة بغزة، كما ويشكل جزء معماري ضمن وحدة معمارية متكاملة، حيث يمثل سوق الزاوية نمطاً معمارياً وهندسياً يلاءم الأجواء وظروف المناخ، حيث لها سقف مقبب معقود بعقود متقاطعة، وهي تمتد من الشرق إلى الغرب، وتأتي من الشرق أشعة الشمس، ومن الغرب يأتي الهواء اللطيف، ولها من الأعلى فتحات للإضاءة والتهوية.
وتُرصد على جوانبه العديد من المنشآت التجارية والأسواق، إلى جانب أكبر الجوامع في البلدات القديمة شرقاً وهو الجامع العمري الكبير، والذي أنشأه السلطان محمد بن قلاوون عام 1329م، ويفتح باب منه على وسط سوق "الزاوية"، وتلك فلسفة عمرانية تجارية.
ويتألف سوق الزاوية – منذ أن بدأ قديما - من 18 حانوتاً أو دكاناً، ويقابلها على الناحية الأخرى حوالي 16 حانوتاً آخرا، وجميعها ذات سقف معقود بعقود متقاطعة، ويصل عمق الحانوت أو الدكان الواحد نحو 2.7 مترا.
منذ ساعات الصباح الأولى وقبل أن تصحو الشمس من نومها تُسمع أصوات الأقفال الحديدية لأبواب المحلّات البنية اللون، حين "تراوغها" المفاتيح القديمة، وتلك المفاتيح المُزيّتة بزيت زيتون كي تخفى صوت كَحّتها بـ "بُحة".
"الرزق على الله"
تتسارع الخطى متلهفةً لرؤية المزيد، ثم ما تلبث أن تتباطأ لإدراك ما تراه عيناي وتصنيفه ونوعيته، ثم لأستوعب فكرة
أن يبيع التجار البضاعة ذاتها في المكان ذاته، دون الخوف على أرزاقهم.
السؤال ذاته يبقى مكررًا كلما مررت بأصحاب محلات العطارة، كي أستحوذ على إجابة مُثلى، لكن المدهش في الأمر أن الإجابات جميعها كانت واحدة وكأنهم متفقون على القراءة من كتاب واحد.
ففي كل مرة يكون السؤال عن "عُمرِ صنعة العطارة وتاريخها في هذا المكان، وما إذا كانت لها جمهورها الآن، وكيف لا يخاف التاجر على رزقه بينما يشاركُه أخرون كُثر الصنعة ذاتها والمكان ذاته؟!، يأتي الجواب "عن عمق الصنعة وورثتها عن أجدادهم وصلاحية المكان لها وتعلقهم به وضعف جمهورها، ثم يعقلون على السؤال الأخير بتنهيدةٍ يتعبها جملةٌ منقوشة "الرزق على الله".
"رائحة البهارات والتوابل، ليست هي ذاتها التي نشتمها في بيوتنا، كما لا تتسبب بأي حساسية للأنف، تبدو كما لو أنها التقطت عن أشجار مُزهرة منذ ساعات قليلة" .. تعليقٌ يظهر تلقائيًا حين تصطف التوابل كثيرة ومتنوعة، تمنحُ شعورًا أنك تتجول في حقول الهند.
شارع السوق طويلٌ، -فهو الذي يربط الميدان بالمسجد العمري الكبير أحد أهم آثار غزة-ويتسع لعشرات المحلات يمينًا وشمالًا ببضائعَ تتشابه أحيانًا، يتخلل طوله مفترقات فرعية لشوارع أكثر ضيقًا تصلح كمخازن، وأخرى لتصل السوق بشوارع أخرة كشارع "عمر المختار" الأثري أيضًا، كما أن الشارع ذاته مكشوفًا وجهه للسماء، يكسوه التجار أحيانًا بمعرشات ملونة ومزركشة لقطع الشمس عن المتسوقين.
حتى الآن يبدو الأمرُ متشابهًا، من بدايته حتى منتصفه تقريبًا، بدايات الخضار والفواكه ثم الانتقال إلى محلات التوابل والمستحضرات البيتية واللحوم، وصولًا إلى محلات العطارة، قد يبدو الأمر رتيبًا كأي سوق حديث أو قديم.
"أثريات! أنتيكا!"
لم تتباطأ الخطى هذه المرة، لقد توقفت كليًا وبدت كـ "علامة الوقف" في الفيديوهات التسجيلية، أمام مكانٍ خرج من صفحات التاريخ ليسكن سوقًا عتيقًا، ربما بفعل مارد خرج من مصباح نحاسي موجود على رفوفه منذ قرن، فيما تتوقف الحواس كلها متسائلة، "كم من الدهشة يلزمنا لاستيعاب جمالية العبق في الأثريات القديمة؟!".
" أنتيكا! أثريات!؟" وفي سوق ممتلئ بالبضائع المأكولة والخفيفة ؟!، سؤالٌ استنكاري استفهامي، أتاه الجواب شافيًا بالقول، "كلٌ يبحث عما يتغذى به، فبعض القطع القديمة هي غذاء للروح وتاريخٌ متجول عبر الزمن"، ومما لا يدع مجال للشك أن هذا المكان ازداد عبقًا فوق قدمه بوجود محلٍ كهذا بين زقاقه.
المساحة التي يشغلها المحل لا تتجاوز المترين عرضًا، بدا صغيرًا كتمثالٍ لطفل جميل، ومكتنزًا جدًا، المساحة في الوسط محسوبة لمشية زائرين لا أكثر، أما حائطه فلم يظهر لونه الأصلي إلا من جهة السقف، ممتلئًا بالرفوف التي يتزاحم فوقها قطعٌ قديمة من "حديد ونحاسيات ومنقوشات وزخارف ومسابح وزجاجيات وأحجار" فيما على طول الحائط المقابل مكتبة للكتب ولوحات زيتية ومجسمة لفنانين ونقّاشين.
" كانت موهبة لدي أن أقتني القديم وأجمعه كنوعٍ تراثي راقي" هكذا أجاب صاحب المحل الأثري في السوق العتيق "سليم الريس" عن بداياته ـ حتى بعد تصريحه بعدم الرغبة في إجراء المقابلات الصحفية لكنه بدا متعاونًا جدًا هذه المرة.
وبحسب الريس فان عمر هذا المحل يتجاوز الثلاثين عامًا في ذات المكان، بعد أن قرر الانتقال بموهبته إلى الصنعة والتجارة، جامعًا معه ما اقتناه خلال سنوات شبابه وما ورثه إضافة إلى ما يشتريه من الذين يتملكون قطعًا قديمة واستيراد بعض القطع من الخارج.
ويفيد بأن زبائن المحل من النوع الخاص الذين يقدرون الفن والتاريخ والأثريات، وهم على قلتهم إلا أنهم موجودون، موضحًا أن حركة السياح سابقًا كانت مربحة ومفيدة وكان المحل شغّال، لكنها توقفت منذ فترة -كما قال-.
وأشار أن السياح كانوا غالبًا ما يطلبون قطع مميزة تدل على تاريخ فلسطين قديمًا، كما أن الأكثر مبيعًا هو مجسمات للقدس وأبرز مواقعها وكنيسة القيامة وتمثال مجسم للسيدة العذراء، موضحًا أن ما يحدد سعر القطعة هو قيمتها ومدتها ومادتها.
وعند سؤاله عن اختيار الموقع ومناسبته، قال الريس إن المكان مميز كونه يعكس العراقة التاريخية لأسواق غزة ويقع في منتصف المدينة تمامًا، متسائلًا، "أي جمال أكثر من محل قديم في سوقٍ قديم؟"
"مُتعة أخرى"
عند الوصول إلى نهايته، أدركت تمامًا مقولة نسمعها دومًا "أن بعض النهايات بدايات أخرى"، فنهاية سوق الزاوية يقع سوق يجتمع فيه عدد من محلات استصلاح الأحذية القديمة، ثم ينتهي بعد أمتار ليكشف عن بداية لبوابة "سوق القيسارية" "الذهب" الذي يظهر ذات أقواس ومحلات قديمة جدًا بناؤها منذ مئات السنين بشكلٍ مقبب" لها باب مفتوح على الجامع العمري الكبير.
في نهاية المطاف، وبعد طول مسير لن تنتهي الجولة بعد، فهناك في الشارع الأخر مفترق وزاوية وزقاق وحمام قديم ومسجد أثري، وليس أجمل من أن تكون سائحًا في بلادك، تلك متعة أخرى.










