نابلس – خاص قُدس الإخبارية: الساعة العاشرة والنصف طرق باب المنزل، صرخ "عاد وائل، عاد وائل"، الأب الذي غفى لحظات بعد أن أغرق وسادته بالدموع التي سالت حزنا على استشهاد نجله، قال لنفسه: "لقد جن الولد"، لينهض ويرى الجنون قد أصبح حقيقة، فها هو نجله وائل ( 16) عاما حيٌ يرزق، يدخل مشيًا على قدميه لا محمولاً على الأكتاف كما أفترض الجميع.
عصر الجمعة الموافق (26) شباط 1988، وأثناء عودة وائل وأسامة جودة من رعي الأغنام، لاحقهم عدد من جنود الاحتلال قرب قريتهم عراق تايه شرق نابلس، ليكونوا أول من يبدأ بتنفيذ ما صرح بهم رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها اسحاق رابين والذي أوصى بتكسير عظام المتظاهرين الفلسطينيين وملقي الحجارة.
عدسة موشي ألبرت المصور الصحفي في تلفزيون "سي بي أس"، وثقت بسرية اعتداء جنود الاحتلال على وائل وأسامة، والذي استمر ما يقارب (30 دقيقة)، ثم نشر الفيديو فيما بعد مفجرًا هبة دولية وحقوقية مناصرة للفلسطينيين.
وائل جودة (43 عامًا) يروي لـ"قدس الإخبارية" بعد مرور (29) عاما على الاعتداء قائلاً، "كنا عائدين من رعي الأغنام، حيث بدأ جنود الاحتلال بملاحقتنا اعتقادا منهم أننا من ألقى الحجارة عليهم، اعتقلوني وبعد (10) أمتار اعتقلوا ابن عمي أسامة".
بأيديهم وأقدامهم انهال الجنود بالضرب على الفتيين، ثم بدؤوا بمحاولة تكسير أياديهم بالحجارة، وعدسة ألبرت ما زالت تصور.
يقول وائل، "كان الضرب موجعا ثم تخدر جسمي ولم أعد أشعر بشيء، ولكن أكثر ما أوجعني عندما ضربني الجندي بقدمه على صدري، وبقيت وقت طويل وأنا أعاني من آثار الضربة"، مشيرًا إلى أنه وبعد اقتراب نساء القرية للمنطقة لإنقاذهما، قام جنود الاحتلال بنقلهما في مركبة عسكرية إلى سجن الفارعة في مدينة نابلس.
لم يتوقع وائل وأسامة الخروج من السجن قبل مرور سنوات طويلة، وكل ما يدور في ذهنيهما فقط "كم سنة سنقضي هنا؟ كيف سنعيش في السجن؟"، وها هو الألم يستيقظ مجددا في أطرافهم بل في كل جسدهم.
الساعة السابعة مساء، السجان ينادي على وائل وأسامة لينقلهما بمركبة عسكرية إلى مركز الاعتقال، ليكون بانتظارهم هناك قائد المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي عمران متسناع، والذي طرح أول سؤال على وائل، "أنت كنت ترتدي قميص أخضر؟"، وائل أجاب بنعم رافعا قميصه الذي حصل عليه من أحد الأسرى ليتأكد متسناع أن وائل وأسامة هما من تم الاعتداء عليهما، وهاهما ما زالا على قيد الحياة.
استقبال غريب ما وجده الفتيان اللذان توقعا أن مرحلة جديدة من الضرب والتعذيب ستكون بانتظارهم، إلا أنهما وجدا نفسيهما في غرفة دافئة، الجنود يعاملوهما معاملة لطيفة، وعناصر شرطة الاحتلال يجمعون أقوالهم عن الاعتداء عليهما.
لم يعلم بعد وائل وأسامة أن العالم بأكمله شاهد الفيديو الذي وثق الاعتداء عليهما، لم يعلما أن انتفاضة شعبية جديدة قامت بالخارج غضبًا لما حل بهما، ولم يعلما بعد أن أهالي القرية قمعوا بالقنابل الغازية والرصاص أثناء محاولتهم اقتحام مركز الاعتقال وإعادتهما.
[embed]https://www.youtube.com/watch?v=3C6Z-xSyJpA[/embed]يقول وائل، "كان في الغرفة مع متسناع عدد من الصحفيين الذين أجروا مقابلات معنا، وما أن انتهوا حتى أخبرونا بقرار الإفراج عنا، لم نصدق وقلت لأسامة سيعتقلوننا مجددا ما أن يذهب الصحفيين"، إلا أن الفتيين وصلا منزليهما في قريتهما عراق التايه، ليعرفا بتوثيق الاعتداء عليهما وكيف كان ذلك سببا بالإفراج عنهما.
صباح اليوم التالي نقل وائل وأسامة إلى المشفى، ليتم الكشف عن فظاعة ما حل بجسديهما من رضوض وكدمات، يعلق وائل، "الأحجار كانت رحيمة علينا ولم تسبب لنا كسور، فقط رضوض وكدمات وأوجاع"، إلا أن الاعتداء لفت الإعلام الدولي والعربي للانتفاضة الفلسطينية، فأكثر من شهرين وقصة وائل وأسامة تتصدر عناوين وسائل الإعلام.
"الحادث كان عاديا بالنسبة للفلسطينيين في حينها، فالجنود والمستوطنين كانوا يشنون اعتداءات إجرامية أكثر، ولكن المختلف في هذا الاعتداء أن عدسة الإعلام وثقته ونقلته للعالم"، يقول جودة.
ويروي جودة أنه في عام 1985 تعرض لحادثة أكثر خطورة، حيث اختطفه مجموعة من المستوطنين أثناء عودته من المدرسة في محاولة لقتله لولا تدخل شرطة الاحتلال التي خلصته ونقلته إلى مراكز الاعتقال، لافتا إلى أن كثير من الفلسطينيين تم اختطافهم وضربهم وقتلهم على أيدي المستوطنين دون أن يحرك العالم ساكنا.
إثر الحادثة التي تعرف "بتكسير العظام" عقدت الجامعة العربية اجتماعا عاجلا لبحث تطورات الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فيما صرح الرئيس الليبي معمر القذافي أنه متكفل بعلاج وائل وأسامة وتوفير السكن والدراسة لهما في ليبيا.
ولكن المفارقة الكبرى أنه وحتى يومنا هذا لم يطرق باب وائل وأسامة أي مسؤول فلسطيني، في حين قام الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بتكريم الصحفي موشي ألبرت الذي صور الحادثة، وفقًا لجودة.
ويجدر بالذكر أن الصحفي ألبرت أعتزل تغطية الأحداث السياسية والحروب بعد إصابته بصدمة نفسية إثر رؤيته الاعتداء على وائل وأسامة، وانتقل لتصوير الطبيعة والحيوانات.
"لأكون دقيقًا أكثر، خلال الدعاية الانتخابية للمجلس التشريعي الأول، زارنا أحد المرشحين ووعدنا بأنه سيعمل على أن نلتقي مع الرئيس عرفات، إلا أن ذلك لم يتم"، مضيفا، "رغم ما سببه الاعتداء من صدى دوليا إلا أن المسؤولين الفلسطينيين لم يولونا أي اهتمام".
ويتابع، "مؤخرًا عرضت علينا القناة العاشرة الاجتماع مع الجنود الذين اعتدوا علينا إلا أن الجنود رفضوا، لافتا إلى أن الإعلام الأجنبي والإسرائيلي ما زال حتى يومنا الحالي يتواصل معه سنويا ويعيد بث الحادثة.
وعن حاله اليوم يقول جودة، "أنا موظف عادي درجة ثالثة، أتدرج بوظيفتي بكفاءتي وعملي، الاعتداء الذي حصل علي ما زلت أعتبره وسام شرف أحمله وهو أفضل من ألف رتبة عسكرية".
وأضاف، "أهدي هذا الوسام كل يوم أحيا فيه للشهداء والجرحى والأسرى وللمسجد الأقصى، خاصة أنه واقعنا الفلسطيني أختلف كثيرا عن الماضي وباتت فيه الخيانة مجرد وجهة نظر".
وائل جودة الآن هو أب لأربعة أبناء، موظف عادي في أحد فروع وزارة المالية في مدينة نابلس، قد تراه يوما ما في مكان ما، دون أن تعلم أنه ذاك الفتى الذي رأيت الجنود يحطمون أطرافه بالحجارة، دون أن تتاح لك الفرصة أن تقول له أنك لم تستطع يوما أن تكمل مشاهدة الفيديو حتى اليوم، أو أنك لا تصدق أنه ما زال حيا. أو حتى دون أن تقول له أنا آسف لأني لم أقاسمك ذاك الألم.