"يضعونني في قفص واحد مع بابون مصاب بالسعار ويقولون لي: حسناً، انتم الآن مع بعض فلتشرعوا باقامة حوار بينكم. لا خيار...البابون ضدي والحارس ضدي وأنبياء محبة اسرائيل يقفون جانبا ويغمزون لي بعين حكيمة ويقولون لي: حادثه بلطف. إرمِ له موزة، فأنتم إخوة في النھاية".
يصوّر خطاب سلطة أوسلو أنّ "الثورة" من التاريخ، ولا يمكن لها العودة إليه. ويقدّم بالمقابل "الأمن" باعتباره مشروعاً سياسيّاً، وأساساً للتغيير الاجتماعي والاقتصادي. هو يُقيم منظومته كلّها وشرعيته على "الأمن في مواجهة الثورة".هذا ما يقرّره "كحقيقة مطلقة" خطاب رئيس السلطة بقوله "نحن لا نريد انتفاضة أخرى تدمرنا".هو يُعمل هنا منظومة القطع التاريخي، تلك المنظومة نفسها التي يؤسّس عليها الاستعمار الإسرائيلي سلطته. يدرك الاستعمار وأيّ "سلطة غير عادلة" أنّ الثورة والإنسان الثائر لا مثيل لهما. لذلك يسعى إلى تقويض التاريخ وإفساد تراكمات حججه الطويلة، بالتّشكيك بجدوى الثورة. وإبراز جدوى الخضوع.
كيف لإدعاء أن يقول أنّ الثورة "بوصفها عنفاً"تقع خارج التاريخ وخارج ميدان السياسة؟ كيف لهذا الإدعاء أن يصمد في وجه حقيقة مطلقة تراكمت لعقدين ماضييّن؛ تثبت أنّ كل العلاقات السياسية وميادينها بين سلطة الاستعمار وسلطة أوسلو، كانت ممارسة نقية للعنف وتطبيقاته على الجسد والحياة الفلسطينية. تلك هي هشاشة السلطة التي يدركها الثائر وتدركها جماعته، وأنّه متى بدأ بالحركة لا يمكن أن يقهر، ولا يمكن للتاريخ أن يتجاوزه.
عملت سلطة أوسلو طوال عقدين على مأسسة سلطة الاستعمار الاسرائيليّ، وشرعنتها وإصباغ لوناً وطنياً عليها. وكونها ورثت بنية استعمارية "سياسية وقانونية وأمنية واقتصادية" متراكمة، فهي لا ترى نفسها بمعزل عن الاستعمار. ولا ترى فرصاً لإستمرارها دون الحفاظ على هذه البنى. هذا الفعل، زاد من وتيرة القمع والاضّطهاد، وحال بين الفلسطينييّن ومواجهة الاستعمار مواجهة حقيقية، وفي كل مرّة كانت تزداد سطوة الاستعمار والاضطهاد كانت سلطة أوسلو تستغل الأمر لتعيد ترويج خطاب الأمن. متجاهلة بذلك حقيقة أنّ من يدمر الحياة الفلسطينية هو الاحتلال وسياساته. وتعيد بذلك للذاكرة مشهد جنودها العائدون لغزّة وهم يوزعون أغصان الزيتون والورود على جنود الاحتلال في عام 1993.
وفي كل مرّة كانت الثورة والمقاومة تواجه الاحتلال، كان الاحتلال والسلطة يحاولان إعادة إنتاج مناطق الثورة كمعازل جغرافية وسياسية ويجعلانها "غرائبية". "حصار وقصف غزّة ليست معركتكم في الضفة والقدس وعكا ويافا، يمكن "لعمليّة السلام" أن تمضي قدماً". ما حدث في الأيّام القليلة الماضيّة كشف هشاشة هذا الخطاب وبؤس تلك المنظومة. خروج الثائرين في شعفاط والقدس ويافا وعكا خلخل منظومة القطع التاريخي هذه وعطّلها، وأعاد الثورة إلى أصلها والثوريّ إلى حقيقته. خروج الفلسطينييّن في تلك المناطق لمواجهة قوات الاحتلال، هو إعادة إنتاج للفاعليّة، تلك القدرة على القيام بفعل يتجاوز "الفعل الاستعماري"، ذلك الذي يحدد لهم حقل الممكن.
يعتمد خطاب نظام القوة الاستعماريّ بشكل محوريّ على خلق مجموعة من "الانمساخات" في الحيّز السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ. ففضلاً عن اقتلاع السكان ونظام السيطرة المادي العسكري يعمل على شرعنة نظام السيطرة عبر الخطاب مستعيناً به في خلق مجموعة من التشوهات الكمية والنوعية المتناظرة في نفس الوقت. فبدءاً من خلق بنى سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، ذات طابع فردانيّ عاجزة عن تمثّل المصلحة العامة في هذا الفضاء، بحيث تسهل نظام السيطرة. يعمل المستعمِر على أعمال آليات القطع الحضاريّ في هوية المستعمَر؛ فالمواطنين الفلسطينيين في مدن الأراضي المحتلة عام 1948 ليسوا مواطنين لدولة الاحتلال، وليسوا "عرب إسرائيل" بأي حال من الأحوال. وبالتالي تكون أبرز مهمات الثورة هي إعادة الوصل الحضاري بين الهويّة والأرض. وإذا كان هدف إستعادة الارض ونظام السيطرة هو المهمة الأولى؛ فإنّ ذلك يجب أن يترافق مع طقم كامل من التأكيدات الجماعية والاسترجاعات والتعريفات والبحث عن الأصالة.
سنوات من الضبط و"إعادة تكييف الاضطهاد" وشرعنته، وجهد مضنِ ومستمر لاختزال السياسة بالعمل الأمنيّ، وجماعات ثوريّة تمّ تدجينها. وفي كل مرّة تزداد سطوة منظومة الخضوع وسرديّتها، تعود الثورة لتحتلّ التاريخ، تعود بوصفها فعلاً مرغوباً لتقارع السياسات الأمنيّة والعقلانيّة. فما الذي يجعلها كذلك؟ وكيف لأحدهم ولجماعة أن يخاطروا بحياتهم في ظل "يقين الخضوع"؟
كان لفلسطين المحتلة دائماً منابذها الثائرة، تلك المناطق التي تتموضع فيها أكثر مظاهر سطوة الاستعمار فجاجة، وخلف كل هذا القهر والعنف والاضطهاد، تبرز دائماً اللحظة التي لا يمكن فيها استبدال الحياة بأي أمر آخر. هذا هو الوعي الأساسي التي يقرر بموجبه الثائر أن لا يخضع. وهو وعي لا يُشغل نفسه بسؤال النصر والهزيمة، ولا بثنائيته المغرقة في البساطة. ويدرك أنّه حين يصبح القوي ضعيفاً، والضعيف قويّاً تصبح ساحة المواجهة مع العدو أكثر تعقيداً وعنفاً، لكنها بالمقابل تقوّض خطاب الخضوع تقويضاً كاملاً. وتصبح الثورة مبدأ للقطيعة مع سرديات الهزيمة، مخلخلة بذلك كل حسابات العقلانيّة.
وبالتالي، لا تتعلق الأسباب العميقة لعودة الثورة بانسداد الأفق، ولا توقف "المفاوضات السياسية" بين سلطة أوسلو وسلطة الاستعمار، ولا بالوعود المخفقة التي روجت لها تلك السلطة منذ تأسيسها؛ بل بتراكم الوعي بأنّ "هذا الاستعمار لن يتركننا وشأننا بإرادته". وأنّ خطاب الهزيمة القائل بأن "الانتفاضة تدمّرنا" جزء أصيل من منظومة السيطرة الاستعمارية. وأنّ مواجهة هذا الخطاب من جهة ومنظومة السيطرة الاستعمارية من جهة أخرى، هي جوهر الفعل الثوريّ، وهي استعادة للسياسة والتاريخ.



