خاص - شبكة قدس
"الليلة اليهود رح ييجوا يستلموا نص البلد من حدود سكة الحديد، هذا اتفاق بين إسرائيل والأردن" قالها الضابط الأردني، وأسرع إلى "الجيب العسكري" الذي جاء فيه، قبل أن يهم بقتله قائد المتطوعين السوداني "محمد علي"، الذي اشتعل غضباً عند سماعه الخبر وبدأ يصرخ "انتو ما تخافوا الله" "احنا دمنا هنا".
كان ذلك في أواخر أيام حرب 1948، تحديدا في وسط البلد في قرية بيت صفافا – جنوبي غرب القدس، بعد أن انتهت الحرب تقريباً، دون أن يتمكن اليهود من احتلال القرية وكسر دفاعها بحسب ما يروي لنا الحاج أبو عبد الله "87" عاماً من القرية نفسها، والذي كان شاهداً على الموقف.
كان رد الفعل العنيف للقائد السوداني هذا طبيعيا، إذ أن الاتفاق الذي تحدث عنه الضابط كان يعني أن يُضرب بعرض الحائط رصيد مقاومة استمرت عاماً ونصف بلياليها ودماء شهدائها في هذه القرية، وأن تسلّم كثير من الأراضي طوعاً على طبق من ذهب. فقط لأن الأقدار شاءت أن يشق عبد الحميد الثاني يوماً ما سكة الحديد المارة إلى يافا من وسط أراضيها. ولم يشأ اليهود أن يتنازلوا عن هذه السكة، فوافقت الحكومة الأردنية على التسليم. ليمر خط الهدنة من منتصفها، تاركاً نصف أهلها في الجانب المحتل، ونصفهم الآخر في الجانب الصامد تحت الحكم الأردني!
بيت صفافا المقاوِمة والدفاع السوداني
كانت قرية بيت صفافا خط دفاع أمامي في مدينة القدس، بعد أن هجّرت غالبية القرى غربي المدينة؛ والتي كان أقربها قرى المالحة، ودير ياسين، والولَجة.
لم تسقط القرية في يد الاحتلال في أيام الحرب، بفضل مقاومة أهلها المتواصلة، والتي استمرت حوالي خمسة عشر شهرا بحسب ما يتناقله كبار السن في البلدة، وما ترويه الكتب التي وثقت أيام الحرب.
كتب عبد الله التل – قائد معركة القدس عام 48 – في كتابه "كارثة فلسطين": "يرجع الفضل الأول في ثبات تلك القرية إلى أهلها الذين وقفوا أمام اليهود، ولم ينزحوا عن قريتهم المحبوبة إلى يومنا هذا". وقال أيضاً : " كانت قرية بيت صفافا تشكل نقطة حيوية هامة في خط الدفاع عن المنطقة الجنوبية في جنوب القدس، ولقد بدأت المناوشات بين اليهود وبيت صفافا قبل دخول الجيوش العربية لفلسطين بعدة شهور، وذلك بسبب ملاصقة هذه القرية العربية لمستعمرة "ميكور حاييم"، وقد ظلت بيت صفافا تشكل نتوءاً بارزا في المنطقة اليهودية".
يتحدث من بقي من تلك الأيام أن تلك المناوشات كانت تحدث بشكل يومي، وكيف كان الشباب يتناوبون على الحراسة الليلية على أطراف القرية بما توافر من السلاح الذي كان أكثره ضعيفا، يقول أحدهم: " كان السلاح تعبان، كل 10 طلقات تطلع مع الواحد طلقة".
قدّمت القرية في دفاعها زهاء 20 شهيداً من أبنائها، ستة منهم سقطوا في معركة حي "القطمون" المجاور، حيث كان شباب القرية يسارعون للمشاركة في معارك المناطق القريبة، لإدراكهم الخطر المحدق في حال سقوط أي منها.
عندما دخلت الجيوش العربية فلسطين، قصد المتطوعون السودانيون بيت صفافا، وجلبوا عائلاتهم معهم وأسكنوهم في بيوت القرية، إلى جانب بعض أفراد الجيش المصري. حتى أن هؤلاء المقاتلين صاروا يقولون على سبيل النكتة بأن بيت صفافا صارت " أم درمان". ويشهد أهالي القرية لمقاتلي السودان بالبسالة والإقدام.
التسليم
شارفت أيام الحرب على النهاية، وأفلحت القرية في صمودها، حتى جاء ذلك الضابط الأردني الذي ساق نبأ اتفاق الهدنة الذي يقضي بتسليم أراضي القرية اعتبارا من سكة الحديد. كان المقاتلون السودانيون يومها قد بدؤوا بحزم أمتعتهم استعدادا للرحيل مع الجيش المصري، وكانت الأسلحة قد حُزمت في الصناديق. فلما جاء الخبر؛ وثارت ثائرة القائد السوداني أخرج الأسلحة وعاد المقاتلون إلى استحكاماتهم استعدادا لمعاودة القتال.
لم يأت اليهود في الليلة الموعودة، فظن الشباب بأن اليهود لن يعودوا، وعاود متطوعو السودان الشقيق حزم أمتعتهم ورحلوا في الصباح. غير أن الأمر كان خدعة!، فقد انتظر اليهود رحيل المقاتلين السودانيين ليأتي "موشي ديان" قائد القوات الإسرائيلية في المنطقة آنذاك، وبصحبته الجنرال "رايلي" مراقب الهدنة، وضابط أردني. وهنا يذكر الناس أمراً هو أقرب للإشاعة ربما؛ بأن موشي ديان كان قد قبّل أرض بيت صفافا عند دخوله إليها، كناية عن حصانتها طوال الفترة الماضية.
تجمع أهالي القرية، فبدأ " ديان" الحديث بما معناه أن الاتفاق بتقسيم القرية قد تم مع الحكومة الأردنية، وأنه قد جاء للاتفاق مع أهل البلدة بأن يمر سياج الهدنة من وسطها. واستمر في حديثه الدبلوماسي اللطيف وتزيين فكرة التقسيم، ووعد الناس بفتح بوابة خاصة بين الجانبين حتى لا ينقطع التواصل بين أهل البلد، لكنه طلب منهم أن يحضروا إلى اجتماع في الساعة الرابعة عصراً حتى يتم الاتفاق بشكل رسمي.
وما إن اقترب موعد الاجتماع حتى بدأ القوات الإسرائيلية بضرب القرية بالمدافع من كل اتجاه. فأيقن الأهالي حقيقة الأمر، وأن التقسيم حاصل وأن لا حول لهم ولا قوة، وفي صباح اليوم التالي بدأ نصب الشريط عند الحدود المقررة.
بين 48 و67
وُضع "السلك" أو "الشريط" في وسط القرية، بعد أن حاولت القوات الإسرائيلية إقناع سكان القسم المحتل بترك بيوتهم والانضمام للشطر الأردني فرفضوا. وفُرضت حالة الطوارئ على بيت صفافا بسبب موقعها الحساس، كما فرض منع التجوال في القرية ليلاً.
فرق الشريط بين الأخ وأخيه، وكان ممنوعا على أهل القرية في الجانب الأردني افتتاح بقالة، أو حتى جلب المؤونة من المناطق المجاورة إلا بتصريح، فكان كل ما يدخل القرية يمر بالتفتيش في مخفر الشرطة، خوفاً من "تهريب" شيء للطرف "العدو" في الجهة الأخرى من الشريط.
كانت الحراسة متواجدة على الجانبين، ويتحدث السكان عن التجارة التي كانت تحصل بالخفية بين الناس على الشريط، فسكان الجانب الإسرائيلي يجلبون برتقال يافا، والخبز من المخابز الإسرائيلية، ويأتيهم الذين على الطرف الأردني بالقهوة والشاي وأواني الطعام.
توثق الأعمال الفنية كمسلسل "عائد الا حيفا" أو "التغريبة الفلسطينية" تواعد الناس عبر الإذاعات من قرى ومدن فلسطين في الجانب الأردني والإسرائيلي للقاء في بيت صفافا كونها المنطقة التي يمكن للناس رؤية بعضهم فيها في تلك الفترة, فكانت الأم من يافا مثلا تقول عبر الراديو لابنتها التي في طولكرم : "لاقونا يوم الخميس على الشريط في بيت صفافا" .
كان الجيش الأردني يسمح بلقاء الناس على الشريط دون تلامس أو كلام. الكلام كان مسموحاً في الأعياد فقط. فكان أهالي القرية يقيمون زفات الأعراس والجنازات على جانبي الشريط، بحيث يمشي الموكب في صفين معا على كلا الجانبين. وابتدعت آنذاك أهازيج خاصة تعبر عن تلك الفترة:
هاتوا الجريدة تنقراها نشوف بلدنا مين تولاها يحرَم عليّ الحرير الزّيني عشان بلدنا انقسمت قسمين ي يحرم علي الحرير يتهافى عالّلي جرالك يا بيت صفافا
تسع عشرة عاماً بين 1948 و 1967 خلّفت فروقا اجتماعيا وأنماطا معيشية مختلفة لدى أبناء قرية واحدة، يعيش كل قسم منها في دولة منفصلة على جانبي الشريط. فبينما توجه أهل القرية في الجزء المحتل للعمل في المخابز والفنادق الإسرائيلية، كان توجّه الناس في الجانب الأردني نحو التعليم. تقول دراسة أجراها "بشناق السراس" في بداية السبعينات؛ أن نسبة التعليم في الجانب الأردني بلغت 97% بينما لم تتجاوز 7% في الجانب الإسرائيلي.
وتعود أسباب ذلك إلى انفتاح آفاق التعليم في الجزء الأردني على الدول العربية الأخرى. وتوجه عدد لا بأس به من الناس للعمل في الكويت ودول الخليج التي فتحت أبوابها بداية الخمسينات، ما يعني توفّر المال وتشجيع التعليم. كما أن مدرسة القرية في الجانب الأردني كانت تدرّس حتى الثانوية العامة. إذ تذكر السجلات أن عدد الناجحين في "التوجيهي" في القسم الأردني عام 1963 بلغ 23 من أصل 24 طالب. بينما كانت المدرسة في الجانب الإسرائيلي تتوقف عند الصف التاسع الأساسي، وعلى من أراد أن يكمل تعليمه أن يتوجه إلى مدارس الناصرة والطيرة. الأمر الذي كان شاقاً على أبناء القرية. خصوصاً أمام فرص العمل المغرية التي وفرتها لهم سلطات الاحتلال.
ما بعد عام 1967
سمعت أحد الأدلاء السياحيين يقول ذات يوم: " إن كان هناك حسنة لحرب عام 67 فهي أنها أعادت توحيد قرية بيت صفافا"، فقد اكتمل احتلال مدينة القدس في ذلك العام. واكتمل معه احتلال الجزء المتبقي من القرية، وعادت بيت صفافا قرية واحدة. تحت الحكم الإسرائيلي! وصار مكان خط الهدنة شارع اسمه "شارع توحيد القرية".
بقي نصف أهل القرية يحمل الجنسية الإسرائيلية، بينما حمل الشق الآخر جواز السفر الأردني إلى جانب الإقامة الإسرائيلية. أما مدرسة القرية فكانت هي المدرسة الوحيدة في القدس التي تدرّس كلا المنهاجين الإسرائيلي والأردني في صفوف منفصلة في نفس المدرسة.
امتزج أهل القرية من جديد، لكنهم حملوا معهم تبعات الانفصال فترة من الزمن... ففي الوقت الذي كان يتباهى سكان الجانب الأردني بالثقافة والتعليم، ويأخذون على سكان القسم الإسرائيلي عملهم في المخابز والمصانع الإسرائيلية. كان احتكاك الناس الذين عاشوا في الشق الإسرائيلي قد ولّد لديهم انفتاحاً، وغلب الطابع المحافظ على سكان القسم الأردني.
بيت صفافا اليوم
تلاشت هذه الاختلافات مع الأيام، وعاد النسيج منسجماً، فيبدو أن رابطة الدم والقرية الواحدة قد غلبت الفروقات. فصار بعض الطلاب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية يدرسون المنهاج الأردني، والعكس كذلك، الحقوق متساوية، وتوجهات العمل والتعليم متشابهة أيضا، نمط المعيشة لا فرق فيه، كما لا يشكل اختلاف الوثائق مانعاً للزواج.
يصعب اليوم على مستوطن يسكن مستعمرة "جيلو" أو "بات" المحاذية للقرية أن يصدق بأن بيت صفافا كانت تقاوم يوماً ما، فالقرية هادئة تماما، أما سكة الحديد التي كانت سببا في تقسيم القرية، فهي اليوم مسارٌ رياضي جميل، يمارس الرياضة فيه اليهود والعرب جنباً إلى جنب. في مكان يحمل ذاكرة مثقلة، ومشهد معقد يجمع في ظاهره تناقضات كثيرة. الا ان حدثا كوقوف القرية الأخير ضد شارع استيطاني. يجعلك تتاكد بأنها ما زالت بيت صفافا، القرية العربية الفلسطينية الصامدة.
[caption id="attachment_41929" align="aligncenter" width="600"]