نشرت وحدة تحليل السياسات في المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة ورقة تقدير موقف إزاء التراشقات السياسية والإعلامية الأخيرة بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس والقيادي المفصول من حركة فتح ورئيس جهاز الأمن الوقائي في غزة سابقاً محمد دحلان.
وتقارب الورقة "المعركة" السياسية الأخيرة بين جناحين في فتح: الجناح "العباسي" والجناح "الدحلاني"وتسرد تسلسل تطور العلاقات بين الجناحين، وهي وإن كانت ليست الأزمة الأولى التي تشهدها الساحة الفلسطينية وفصائلها المتعددة وبالأخص حركة فتح، إلا أنها تختلف عن سابقاتها بكون أحد أطرافها - على الأقل - مرتبط بشبكة علاقات إقليميّة ودوليّة واسعة منذ الخلاف الشهير بين "أبو عمّار" و"أبو مازن" في بداية الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية.
وتذكر ورقة تقدير الموقف علاقات التحالف التي ربطت عباس ودحلان سابقاً وجهودهما المشتركة إلى التخلص من "نهج التفرُّد والشخصنة" في إدارة السلطة، والتحوُّل إلى المؤسساتيّة ومحاربة الفساد. وكان المقصود، في ذلك الوقت، احتكار ياسر عرفات المفاصل المختلفة للسلطة.
وسرعان ما تبلورت هذه المطالبات الداخلية في فتح إلى تيار تزعّمه محمود عبّاس، أحد المؤسِّسين، وعدد من قيادات الجيل الثاني، أبرزهم محمد دحلان؛ وذلك بعد تفاقم الخلاف مع عرفات بسبب دعمه الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية، وعدم "مثابرته" في مسيرة الحل السياسي. وتشير الورقة إلى أنه على الرغم من أنَّ تيّار عباس- دحلان استطاع عبر الاستقواء بالسياسة الأميركيّة إجبار عرفات على استحداث منصبٍ لرئاسة الوزراء ذي صلاحيات كاملة، تدخُل ضِمنه الأجهزة الأمنية، فإنّ عرفات عاد وفرَّغ هذا المنصب من مضمونه، بعد قراره إلحاق الأجهزة الأمنيّة بمؤسسة الرئاسة؛ ما أدَّى إلى استقالة "أبو مازن" من منصب رئاسة الوزراء.
حاول عبّاس بعد انتخابه رئيسًا أن يطبّق برنامجه الذي كان قد رفعه شعارًا، والذي يقضي بإعادة مأسسة السلطة الفلسطينيّة، وعلى الرغم من اعتراض أوساط من حركة فتح على التنافس مع حماس في الانتخابات التشريعيّة؛ بسبب الفوضى الداخلية التي عانتها الحركة إبَّان انتفاضة الأقصى، فإنّه غامر بالذهاب ظنًّا منه أنَّ ذلك سوف يؤدِّي إلى احتواء حركة حماس في السلطة الفلسطينيّة تحت قيادة فتح. ولكنَّ فوز حماس في الانتخابات فتحَ مسارًا آخر من الصراع العنيف، وانتهى إلى انقسام جغرافيٍّ - سياسيٍّ.
في مثل هذه الأوضاع نشأ التحالف مع دحلان، بصفته مموّلًا لعدد كبير من الميليشيات المسلّحة ومسؤولًا عنها، وصاحب علاقات أمنيّة ومالية واسعة بأجهزة الاستخبارات في "إسرائيل"، وبأنظمةٍ عربيّةٍ (مثل سيف الإسلام القذّافي، ورجل الأعمال المصريّ نجيب ساويرس)، وبعصابات تهريب الأسلحة والمخدّرات. فخلال صراعه مع عرفات قدَّم دحلان- لأهدافٍ خاصَّة به - دعمًا لعباس، وإن على نحوٍ محدود؛ وذلك حين قاد بنفسه تظاهرات في قطاع غزّة تندِّد بسياسات عرفات. كما أنّ محمود عبّاس احتاج إلى التحالف مع دحلان ليستقرَّ حكمُه في المرحلة الأولى من تقلّده منصب الرئاسة، وسط فوضى شديدة في تنظيم حركة فتح. ثمَّ إنه احتاج إليه أيضًا، هو وغيره، في الصراع مع حركة حماس بعد فوزها في الانتخابات التشريعية، وبعد تنامي نفوذها السياسيّ والعسكريّ.
وكان عباس، على الرغم من ذلك، مدركًا لخطورة تنامي نفوذ التيّار الدحلاني في حركة فتح، متوجِّسًا بفساده المالي وعلاقاته المشبوهة بإسرائيل، فاستغل أوضاع المواجهة مع حماس، وتراجع قوة دحلان مع فشله وهربه من غزة للتخلّص منه، بوصفه أكبر مركز قوّة يمكن أن يهدّد موقعه رئاسته لحركة فتح، وللسلطة الفلسطينيّة، وفي كلّ الأحوال لم يكن وجود شخصيّة تمتلك كلّ تلك العلاقات المشبوهة بأنظمة عربيّة، وأجهزة استخبارات إسرائيليّة وأميركيّة، إضافةً إلى شبكة علاقات مع مافيات عابرة للحدود، أمرًا مريحًا.
كيف فقد دحلان أهميته لدى أبي مازن؟
ومن ثم يعرض التقرير للأسباب الرئيسية التي أدت إلى فقدان دحلان أهميته في أجندة محمود عباس، فبعد أن انتهت المواجهات بين ميليشيات دحلان وكتائب القسّام بسيطرة حماس على غزّة، وبإخضاع ميليشياته ونزع سلاحها؛ فَفَقَد دحلان أهميته على الأرض، وبعد ذلك عمد الرئيس الفلسطينيّ إلى إقصائه تدريجيًّا، إلى أن قرَّرت اللجنة المركزية لحركة فتح، في حزيران/ يونيو 2011، فصْل دحلان وإنهاء أيّ علاقة رسمية له بالحركة.
وقد صاحبت قرارَ طرد دحلان حملةٌ منظّمةٌ لقطْع التمويل عن القطاعات الفتحاويّة الموالية له في غزّة، في حين ترك عبّاس لحركة حماس استئصال من تبقى من أنصار دحلان في قطاع غزة وملاحقتهم، وتولّت أجهزة الأمن الفلسطينيّة اجتثاث أغلب منابره من مدن الضفّة الغربيّة ومطاردة أنصاره.
في هذه المرحلة أصبح دحلان مستعدًّا للتقاطع مع أيِّ معارضة ضدّ محمود عباس، فأجرى اتصالات غير مجدية حتى مع حركة حماس. ومع أنه كان يؤيِّد منح إسرائيل مزيدًا من التنازلات، فإنَّه صار مستعدًّا للمزايدة في الاعتراض على أوسلو. وبحسب جمهور المستمعين، أصبح مهزومًا منبوذًا في آن واحدٍ.
هكذا انتهت ظاهرة دحلان في فلسطين، وهو الذي تدرَّب على أيدي جهاز "MI6" طوال أشهر في لندن، ولكنّ إقامته في دبي، وعلاقاته بالإمارات العربية المتحدة، واندلاع الثورات العربيّة، كلّها عوامل سوف تفتح له فرصةً أخرى لإعادة تفعيل علاقاته الأمنيّة والاقتصاديّة على مستوىً جديد؛ وذلك من خلال ركوبه موجة الثورة المضادَّة.
من الدور الاستخباراتي الميليشياوي في السياسة الفلسطينية إلى الدور المضادّ للثورة
يمكن إدراج ظاهرة محمد دحلان من خلال فهم السياق المتصدّع للنظام الإقليمي العربي. فلقد سمح انهيار بعض الأنظمة العربيّة، أو انكفاء أجهزتها الاستخباراتيّة إلى الداخل (مصر وسوريّة وليبيا تحديدًا)، ببروز هامشٍ للمجموعات المنظمة والعابرة للحدود يُتيح لها أداء أدوارٍ يغلب عليها الطابع الربحيّ بوجهٍ عامّ، لكنّها قد تأخذ في العالم العربي أدوارًا سياسيّةً، وخصوصًا مع صعود حملة منظمة ترعاها دول متضررة من الثورات العربيّة، بقيادة السعوديّة والإمارات.
ويرى التقرير أن الظاهرة الدحلانيّة لا تتعدى هذا السياق، وإنّ ما يغذِّيها، ويغذِّي غيرها أيضًا، فراغ القوّة الذي نشأ عن انشغال الدول بصراعاتها الداخلية، وعندئذٍ تصبح هذه العصابات مفيدةً بالنسبة إلى مراكز قوى الأنظمة التي تجد في الديمقراطيّة تهديدًا لها، فتقوم بخدماتٍ وأدوار تهدف، أساسًا، إلى إحداث الفوضى في المجتمعات العربيّة، ونزع الاستقرار؛ ما يخلق مناخاتٍ معاديةً لفكرة الثورات العربيّة والديمقراطيّة، ولذلك ليس غريبًا أن تكون لهذه التشكيلات علاقات واسعة تتعدَّى أجهزة الاستخبارات العربيّة والأجنبيّة الراعية لها. بل إنَّها تصل، أيضًا، إلى تمويل شبكة من المنظمات غير الحكومية، والأحزاب، والجماعات الرسميّة وغير الرسميّة، ورجال الأعمال، ووسائل الإعلام الحكوميّة والخاصّة، وفق "منطق" واحد هو "المال يستطيع أن يفعل أيَّ شيء".
وفي هذا السياق تمكّن محمد دحلان برعاية إماراتيّة من توسيع شبكة علاقاته، لتشمل جماعاتٍ سلفيّةً (في قطاع غزّة، وسيناء)، كان لها دور أساسي في نشوء النزاع في شبه جزيرة سيناء، وفي استهداف الجيش المصريّ. وتعمل هذه الجماعات أيضًا على توريط قطاع غزّة في معارك مع إسرائيل؛ من خلال ما يُعرف باسم "الصواريخ المموّلة"، التي لا تندرج تحت إستراتيجيّة المقاومة، بل تهدف – على عكس ذلك - إلى إرباك المقاومة، وتوريطها في معارك ليست جاهزةً لها.
وبرفعه شعار معاداة جماعة الإخوان المسلمين التي تكنّ لها دول عربيّة مثل الإمارات والسعوديّة عداءً شديدًا، استطاع دحلان الإشراف على تنظيم علاقات إماراتية برجال أعمال مصريين، ووسائل إعلامٍ مصريّة خاصةً، ورؤساء تحرير صحفٍ مصريّة؛ وذلك من خلال الاستخبارات المصريّة. واستندت هذه العلاقات إلى وكالات الدعاية التي تشكّل غطاءً لضخّ أموال النفط، وعمدت إلى استغلال التناقضات الداخليّة بين الإسلاميين والعلمانيين (وهي تناقضات طبيعيّة كان من الممكن استيعابها عبْر العمليّة الديمقراطيّة)؛ من أجل دفع المتخاصمين إلى المواجهة، بإمطار المجال الإعلامي بعدد كثير من الإشاعات. وقد ساهمت هذه المساعي - إضافةً إلى عوامل أخرى - في تجهيز المناخ لانقلاب عسكري، وهو ما حدث في 3 تموز/ يوليو 2013.
عزَّز نجاح الانقلاب العسكريّ وما رافقه، موجة الكراهية تجاه الإسلاميين بوجهٍ عامٍّ، وتجاه الإخوان المسلمين بوجهٍ خاصٍّ؛ وذلك من موقع "الدحلانيّة" ونفوذها. وقد ظهر محمد دحلان في لقائه على قناة دريم 2 المصريّة مصوّرًا نفسه بطلَ الإطاحة بالإخوان المسلمين، ومن يطَّلع على تفاصيل حراك أصحاب رؤوس الأموال في مصر - بمن فيهم ضبّاط كبار من الجيش المصريّ - يدرك مدى انكباب رجال الأعمال على نسْج علاقات اقتصاديّة بشركات إماراتيّة.
وبالنسبة إلى الموضوع الفلسطينيّ، فإنه ما كان لعودة نفوذ محمد دحلان، واستفادته من التناقضات بين الدول العربيّة، أن تمثّلَا أيَّ مشكلة لقيادة حركة فتح التي استفادت أصلًا من عزل الرئيس المصريّ محمد مرسي. ولكنَّ استثمار دحلان لهذا النفوذ للضغط على "أبو مازن" عبر النظام المصريّ الجديد لضمان عودته شريكًا في المؤسسة الفلسطينيّة، أثارت غضب الرئيس الفلسطينيّ، كما أثارت اضافة إلى ذلك محاولاته استغلال قطاعات فتحاويّة ناقمة على التهميش الرسميّ في قطاع غزة، حساسية حركة فتح التي تَعُدُّ استقلاليتها عن الأنظمة، واستقلالية قرارها، من الخطوط الحمراء التي لا يمكن المساس بها. وممَّا زاد محمود عباس غضبًا، ضغْط قيادة الإمارات عليه ضغطًا مباشرًا لفرْض دحلان نائبًا له.
من ثمَّة تفجّرت من جديد أزمة كان من المفترض أنّها طُوِيَت منذ ثلاث سنين، والأخطر من ذلك أنَّ دحلان يعود هذه المرة كـ "رأس حربة" لقوى الثورة المضادة؛ أي إنّ عودته تأتي في سياق مشروعٍ إقليميٍّ يهدف إلى إعادة ترتيب المنطقة.
حركة فتح والقضية الفلسطينية
تستعدّ حركة فتح لخوض معركة جديدة تحافظ فيها على وحدتها، وعلى استقلاليّة قرارها، وعلى بنيتها المؤسساتيّة، وهو ما حرص عليه الرئيس الفلسطينيّ في اجتماع المجلس الثوريّ الأخير؛ ذلك أنّ الكاميرات استعرضت أغلب قيادات الصفِّ الأوّل الفتحاوي، وهو ما يُوجِّه رسالةً واضحةً رافضةً للضغوط الإقليميّة الجارية رفضًا قطعيًّا؛ فالقيادة الفلسطينيّة تُدرك جيّدًا أنّ السماح للقوى الإقليميّة بالتدّخل في صوْغ شكْل المؤسسة الفلسطينيّة يعني، عاجلًا أو آجلًا، إعادة صوْغ المشروع الوطني الفلسطينيّ نفسه. هذا هو درْس ياسر عرفات الثمين.
وعليه، فإنّ القيادة الفلسطينيّة، في أثناء سعيها لترتيب جولة المفاوضات الحالية مع الجانب الإسرائيليّ، تنتظر مزيدًا من الضغوط، على أنّ مصدر الضغوط هذه المرّة هو محور الثورة المُضادّة الذي يُعِدُّ نفسه حاليًّا لإعادة رسم النظام الإقليمي العربيّ؛ لذلك ستخوض القيادة الفلسطينيّة، في المدى القريب أو البعيد، معركةً متعددة الجبهات.
ويختم تقدير الموقف تحليله بالقول أن هناك ظواهر "دحلانية" أخرى ستبرز في العالم العربيّ، ففراغ القوة الذي يعانيه النظام الإقليمي العربي اليوم، مهدَّد باختراقات أخرى تفرز عدّة ظواهر، وهي "ظواهر استخباراتية تخومية" تُعَدُّ الوجه الآخر للإرهاب في المناطق المتاخمة، وهو الأمر الذي يهدِّد القضيّة الفلسطينيّة من جهة أنَّها قضيّة عادلة تتطلب تضافرًا في الجهد بين الفلسطينيين وسائر العرب. من أجل ذلك تكون الطريقة الصحيحة في مواجهة التحديات الجديدة متمثّلةً بتحقيق المصالحة الوطنيّة الفلسطينيّة، وبلورة موقفٍ فلسطينيٍّ موحَّد تقف خلفه كلّ مكوّنات الشعب الفلسطينيّ في الداخل والخارج.