يشتد الحصار الخانق على غزة، مرة أخرى، من نفس الأطراف التي اعتقدت في عام 2006 أن الضغط على حركة حماس الحاكمة في قطاع غزة يأتي من خلال تجويع سكان القطاع، قطع الكهرباء عنهم، عدم السماح بادخال الوقود و الدواء، اغلاق المعابر ال6 التي تسيطر عليها "إسرائيل"، و المعبر الوحيد الذي لا يوجد به جندي اسرائيلي واحد، و الآن تدمير كل الأنفاق، شريان الحياة الذي ابتدعه أهل غزة لمقاومة هذا الحصار. أي أنهم يظنون أن التخلص من حكم الفصيل الحاكم يتأتى من خلال عقاب جماعي بالمعنى الحرفي للكلمة، يمارس ضد 1.8 مليون مدني يعيشون في أفقر بقعة على سطح الأرض!
وللتذكير، حيث أن النسيان أصبح ظاهرة جماعية أبدعت في خلقها البروباجندا المغرضة، فإن "إسرائيل" هي المستفيد الأول و الرئيسي من حصار غزة، قامت بشن حربين همجيتين، بدعم أمريكي، على غزة بهدف تسريع نتائج الحصار. و قد أثمرت هاتان الحربان على غزة عامي 2009و 2012 ليس فقط عن سقوط 1500 شهيد معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن وآلاف البيوت والمؤسسات المدمرة دماراً لا يمكن أن يحصل إلا من عقل مريض لا يختلف كثيراً عن عقلية أباء الحروب الابادية وولعهم الشديد بإحداث زلازل أينما ذهبوا، بل تركت جروحا غائرة لا يمكن أن تدمل بسهولة لفترة طويلة من الزمن تماماً كما لم تدمل جروح أوشفتس وجورنيكا وشاربفل.
الفارق أن (المجتمع الدولي) لم يسامح مرتكبي تلك المجازر مطلقاً. والآن نحن أمام مؤامرة صمت دولية غير مسبوقة، مؤامرة تتميز بعدم القدرة على الفعل في مواجهة خروقات هائلة وُثقت من قبل مقرري الأمم المتحدة جون دوغارد وريتشارد فولك ومن قبل أهم مؤسسات حقوق الإنسان الأممية مثل أمنستي و هيومان رايتس ووتش، بل حتى الاسرائيلية مثل بتسيلم. وكان تقرير القاضي الجنوب أفريقي رتشارد جولدستون قد كُتب ليضع بصمة واضحة في تسجيل جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية من خلال أسلحة تستخدم لأول مرة ضد سكان مدنيين، قنابل فسفور، وقنابل الدايم بالإضافة للأسلحة (الكلاسيكية) F16، أباتشي، زنانات، و دبابات الميركافا.
رابع أكبر جيش في العالم مسلح بأكثر من 450 رأس نووي في مواجهة 1.5 مليون مدني، 70% منهم أصغر من 15سنة في بقعة وصفها أحد مقرري الأمم المتحدة بأنها شبيهة بأوشفتس، وتم تحويلها الى أكبر معسكر اعتقال على سطح الكرة الأرضية بتواطؤ، وأحياناً مشاركة مباشرة، لدول تفتخر بأنها (حضارية)، (ليبرالية)، تسير على خطى شعارات الثورة الفرنسية من ( حرية وإخاء ومساواة).
ولزيادة الطين بلة فإن الحرب الأولى على غزة جاءت بمباركة بعض الأنظمة العربية (الشقيقة!) من منا لا يذكر تهديد وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني من القاهرة لسكان القطاع قبل يومين فقط من شن "إسرائيل" أولى غاراتها على القطاع عام 2008؟ من منا لا يذكر حالة التشفي لدى بعض الساسة العرب في ذلك الوقت وعجز النظام الرسمي العربي عن عقد قمة عربية فور شن اسرائيل الحرب على غزة؟ و رفض العديد من القادة العرب حضور مؤتمر الدوحة المتأخر!
تم تحويل القطاع الى حظيرة حيوانات (على حد قول الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر) والفارق هذه المرة أن الحيوانات في الأقفاص يتم امدادها بالطعام والماء وأحياناً بالكهرباء ، ولكن اهل غزة محرومون من ذلك في سجنهم الكبير المحاط بالأسلاك الشائكة ، الجدران الأسمنتية والفولاذية ، فوق وتحت الأرض ، والبوابات السبعة . غزة ،قبل وبعد المجزرتين غير محبوبة، معزولة، محاصرة ،يريد الكثير أن يراها تغرق في البحر المتوسط، أطفالها يقتلهم سوء التغذية ، دموعهم لا تحرك قلب سيد البيت الأبيض، ولا أمراء مدن الملح، نساء غزة أصبحن هدفاً للقناص الإسرائيلي، مرضى غزة محكوم عليهم بالإعدام البطيء. يقول المؤرخ إلان بابيه إن ما يحصل في غزة، قبل و بعد المجزرة، لهو "حرب إبادة بطيئة!"
و الآن، و في خضم ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، والتخلص من بعض الطغاة العرب الذين ساهموا بشكل مباشر في العقاب الجماعي المفروض على القطاع، نعود الى المربع الأول بعد أن تباشرنا خيراً. و الحقيقة أن أهل القطاع يعتبرون العودة للحصار الظالم أسوا من بداياته. فالأنفاق تم تدميرها بالكامل تقريباً، و النقص في الأدوية وصل مراحل في غاية الخطورة، و الكهرباء يتم وصلها لمدة 6 ساعات فقط في اليوم، ناهيك عن الاختفاء الكامل لمواد البناء ، و الاغلاق التام للمعبر الوحيد الذي يستخدمه أهل القطاع للسفر. و صاحب ذلك عملية شيطنة غير مسبوقة لكل ما هو فلسطيني من خلال تنميط يلامس العنصرية الشوفينية في الاعلام المصري، الخاص و الرسمي. زيارة قصيرة لقسم غسيل الكلى في مستشفى الشفاء يلخص وضع غزة الآن.
ولكن...
في خضم هذه "الابادة البطيئة" المستمرة و التي يعلم عنها الجميع و يشاهدونها مباشرة على شاشات التلفاز، تأبي غزة أن تنحني لتقبل قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي وحلفائه .فغزة ألهمت الملايين من عمال جنوب أفريقيا، ايرلندا ، اسكتلندا، بريطانيا، وأكاديميي وطلاب العديد من دول العاالم . غزة اصبحت العنوان لقوة الشعب ، قوة المواطن العادي حينما تعجز المؤسسات الدولية و الحكومات عن الفعل. تتجسد هذه القوة الشعبية في الإصرار على مقاطعة كل ما هو إسرائيلي ، أكاديمياً واقتصادياً، وحتى سياسياً كما فعلت كل من فنزويلا وبوليفيا و نيكاراغوا، و الآن جنوب أفريقيا. غزة تُلهم ألآلاف الذين يرفعون شعار ( لا للحصار) . غزة تلاحق مجرمي الحرب الاسرائيليين باراك، ليفني، أولمرت وباقي الجنرالات .غزة حولت لندن، مدينة بلفور، الى مدينة لا تقبل بوجود المجرمين في فنادقها. و النشطاء الأسبان يقفون بالمرصاد لرئيس الشاباك السابق آفي ديختر.
نصل نهايات 2013 ووسائل القمع تتطور تكنولوجياً فقط من أجل غزة، و يصبح خنق غزة فعلاً "وطنياً" لدى البعض، و ضرورة "قومية" عند البعض الآخر، و تأميناً "للأمن القومي" لدى بعض الجيران! رفع معدل الوفيات بين الأطفال الرضع، و خفض مستوى التغذية لأدنى معدلاته، و رفع مستوى البطالة و الفقر لنسب غير مسبوقة، و قطع الكهرباء ل18 ساعة في اليوم،و التأكد من عدم وصول دواء الأمراض الخطيرة، و اغلاق أي شريان للحياة، كلها أصبحت مقياس للبطولة، الدينكيشوتية بالطبع! و المبررهو التخلص من حكم حركة حماس، مع تناسي التعريف الرئيسي لمفهوم العقاب الجماعي. و ما يصعب فهمه هو دخول بعض ممن يدعون الوطنية، أو الليبرالية، أو حتى القومية، معركة تبرير هذا الحصار! وعام كامل من حكم الإسلاميين في مصر لم يؤد الى رفع الحصار، و المبررات جاهزة و معلبة!
لم نعد نطالب بدعم المقاومة، أو بترسيخ ثقافة الصمود. ما نريده فقط هو ألا تحاصرونا! وألا تكونوا ورقة التوت التي تستخدمها اسرائيل لحصارنا!