شبكة قدس الإخبارية

الإفراج عن الأسرى ... لنبكي بقدر الفرح‎

أسامة خاطر

تداولت العديد من وسائل الإعلام خبر توقيع الاحتلال على قرار يقضي بالإفراج عن دفعة من الأسرى الفلسطينيين من سجونه، شملت "26 أسيراً" ممن اعتقلهم الاحتلال قبل اتفاقية أوسلو، حيث لاقى هذا القرار ترحيباً من قبل البعض بهذه الصفقة، ووصفها على أنها إنجاز وطني بامتياز، وبأنها نتاج لاتفاقية تمت بين السلطة الفلسطينية بقيادة "كبير المفاوضين" الدكتور صائب عريقات، وفي المقابل كان هناك ترقب حذر للبعض الآخر من تداعيات هذه الصفقة، وما ستؤول إليه من نتائج على أرض الواقع، وسبب ذلك الحذر يعود مرجعه لما عهدوه عن تنازل المفاوض الفلسطيني لصالح الاحتلال في كل جولة مفاوضات سابقة.

والحقيقة أن السلطة الفلسطينية وفريق المفاوضات اختاروا بعناية هدفاً يمكن من خلاله أن يلعب على وتر العاطفة الحساس لدى الرأي العام الفلسطيني، بحيث يجد المفاوض الفلسطيني له مخرجاً من حرج العودة للمفاوضات مع الاحتلال دون تحقيق أياً من شروطه التي لطالما تمسك بها وصرح بأن لا عودة للمفاوضات إلا بتنفيذها، وليس هناك أقوى من هدف الأسرى لتوظيفه في دغدغة عواطف الرأي العام الفلسطيني وإيهامه بأن العودة للمفاوضات ستكون المخلص للأسرى في سجون الاحتلال مما هم فيه.

ووجب التنبيه إلى أن مدير مركز أحرار لدراسات الأسرى الأستاذ فؤاد الخفش نشر دراسة لوضع الأسرى الـ "26" المنوي الإفراج عنهم، وتوصل إلى أن الصفقة كانت بتخطيط صهيوني محض دون أن تشارك السلطة الفلسطينية أو تتدخل في اختيار الأسرى المنوي الإفراج عنهم، أو حتى في طبيعة الإفراج عن الأسرى حسب الأقدمية وحسب النسب المناطقية لفلسطين، حيث أن الصفقة لم تتضمن أي أسير من الداخل الفلسطيني والقدس المحتلة، حيث كان توزيع الأسرى الـ"26" على النحو الآتي: 15 أسيراً  من غزة و11 أسيراً من الضفة، مع العلم أن عدد أسرى الضفة من الأسرى القدامى 57 أسيراً، وأسرى غزة 23 أسير، مما يعني ان التقسيم كان وفق المزاج الصهيوني.

ثم إن اشتراط الاحتلال بأن يتم الإفراج عن الأسرى في سجونه على أربعة دفعات أكبر دليل على أن الإفراج عن الأسرى له استحقاق باهظ يجب على السلطة الفلسطينية أن تدفعه، فالأصل أنه تمَّ الإفراج عنهم منذ عشرين عاماً ودفعة واحدة، وذلك ضمن اتفاقية أوسلو. الجريمة كما يبدو  أن السلطة تفاوض على استحقاق من المفترض أنه تم إنجازه بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو، بل والأدهى من ذلك قبول السلطة بتجزئة هذا الإستحقاق على أربع دفعات وبإشتراطات من الجانب الصهيوني، فعن أي إنجاز بعد ذلك يمكن للسلطة والمفاوض الفلسطيني ان يُقنعوا به الرأي العام الفلسطيني.

وهنا يجب على طبقة المثقفين وقادة الرأي الفلسطيني أن يكون لهم كلمة واضحة متزنة مبنية على دراسة واعية لمجريات الأحداث الفلسطينية، فلا يستطيع أحد أن يُنكر أن تحرير الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال هدف سامي، وأولوية يجب أن تبقى ضمن سلم أولويات القيادة الفلسطينية، ولكن هل أصبح تحرير الأسرى هو غاية القيادة الفلسطينية، أم أنه يدخل ضمن الوسائل التي يجب العمل عليها بكل جهد وجِد للوصول إلى تحقيق الهدف السامي والغاية النبيلة وهي تحرير فلسطين كاملة غير مجزئة، وعليه فهل علينا أن نرحب بالإفراج عن الأسرى الفلسطينيين إن كان ثمن تحريرهم مزيداً من التفريط بالحقوق، ومزيد من بيع للأرض الفلسطينية.

وعليه فإنه من الواجب علينا أن نقف مع أنفسنا وقفة عقلانية تنظر لمجريات الأحداث بواقعية لا أن ننجر خلف عواطفنا، وخلف سراب زائف صنعه مهندسو المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، فهل بذل أسرانا الأبطال زهرات شبابهم إلا لأجل قضيتهم المقدسة التي آمنوا بها ووضعوها نُصب أعينهم، وهل ضحى شهدائنا وقادتنا الميامين بأرواحهم رخيصة إلا لأجل عودة الأرض الفلسطينية الكاملة وعاصمتها القدس الشريف، وعودة اللاجئين إلى أرضهم التي هُجروا منها قصراً، إذا سلمنا بأن هذا هدف كل من بذل روحه وعمره عن طيب خاطر منه لأجل تحقيق ما آمن به وسار عليه، فهل يُعقل أن نسلم بأن الإفراج عن الأسرى مقابل مزيداً من التفريط بالأرض والحقوق الفلسطينية إنجازاً وطنياً، وهدفاً نبيلاً لمهندسي صفقة المفاوضات.

قد يكون للبعض ممن يدافع عن هذه الصفقة -باهتة المعنى والمضمون- وجهة نظر تقول بأن الإفراج عن الأسرى خطوة مرحب بها، وهي إنجاز وطني بغض النظر عن الغوص في تفاصيل الصفقة والتمحيص في نوايا من هندسوها وأخرجوها من تحت طاولة المفاوضات، ونقول لهم أليست الطاولة التي أنجزت هذه الصفقة هي ذاتها الطاولة التي جربناها مدة "20 عاماً" ورأينا بأم أعيننا ما جلبته لنا هذه الطاولة وتلك المفاوضات من ويلات وحسرات للشعب الفلسطيني، أليست هي ذاتها الطاولة التي قسمت القدس إلى شرقية وغربية، أليست هي ذاتها الطاولة التي جلبت لنا التنسيق الأمني، أليست هي ذاتها الطاولة التي أقرت بأن هناك فلسطينياً جديداً يجري العمل على إنتاجه حسب الرغبة الأمريكية والإسرائيلية، إذا كانت هي ذاتها الطاولة وهم ذاتهم الأشخاص والمهندسون فهل يمكن أن نغض الطرف عن كل تلك الويلات ونتغنى بصفقة لا ندري لأي غطاء تنازلي ستكون.

ثم، كيف لنا أن نثق بمهندسي هذه الصفقة وبقادة السلطة الفلسطينية، أليسوا هم من فرط بالحقوق الفلسطينية ومقدساتنا، كيف لنا أن نثق بمن فرط في حقه بالعودة إلى موطنه الأصلي ومسقط رأسه صفد، كيف لنا أن نثق بمن نبذ المقاومة الفلسطينية ووصفها بأبشع الأوصاف وتفاخر في محاربته للمقاومة وتعهد بمنع أي انتفاضة في عهده، كيف لنا أن نثق بمن شيد السجون وبمن عذب المجاهدين والمقاومين وزج بهم في معتقلاته للحفاظ على أمن دولة الاحتلال، أليس الأولى بقادة السلطة أن يعقدوا صفقة مع أنفسهم للإفراج عن المعتقلين السياسيين في سجونهم.

لكل تلك الأسباب، لن نثق مطلقاً بهذه الصفقة، ولن نكون من ضمن المرحبين بها أو المطبلين لها، ولن نكون منخدعين بسحرة فرعون وعصيهم، مهما حاولوا أن يجملوا تنازلاتهم عن الحقوق والثوابت الفلسطينية.