شبكة قدس الإخبارية

عندما تكون العدالة مجرّد جريمة مضادّة

أحمد اليازوري

شهد قطاع غزّة منذ بداية العام زيادة في معدلات الجرائم حسب تقرير مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، حيث وصل العدد إلى أكثر من 32 حالة قتل. في ضوء تلك الحوادث، صرّح النائب العام لحكومة غزة بأنه سوف يتم إجراء إعدمات علنيّة بعد عيد الفطر مباشرة، وذلك في سبيل القصاص من القتلة وردع من تسوّل له نفسه القيام بمثل هذه الأفعال الخارجة عن تقاليد وقيم المجتمع الفلسطيني.

على صعيد آخر، في خضمّ العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، قام جهاز الأمن الداخلي لحركة حماس بإعدامات جماعيّة بحق من يعتبرونهم -ويعتبرهم الكثير- "عملاء" للاحتلال. تمّت عمليّات الإعدام بشكل علنيّ أمام النّاس في شوارع مدينة غزة، وسحلت جثث القتلى بواسطة الدراجات الناريّة، على أيدي القاطنين في تلك المنطقة بعد أن تركهم أفراد الأمن الداخلي.

تعالت صيحات الاستهجان من المؤسسات الحقوقية ضد من قاموا بهذا العمل، بوصفه لا إنساني، على الجانب الآخر، لم تقم الحكومة بأي رد فعل أو تصريح، سوى الصمت وتبرير الفعل إستنادا إلى ما فعله عامة الناس بجثث المقتولين. وأن ما يحصل مبرر، خصوصاً في أوقات الحرب والأزمات. مع العلم أن عمليّات الإعدام الأولى وقعت بشكل مفاجئ لأشخاص مرتبطين مع الإحتلال، ومعروفة أماكنهم مسبقاً، وتم إطلاق سراحهم مؤقتاً من السجون خوفاً على حياتهم من القصف إلى أن تنتهي الحرب على قطاع غزة.

قد يبدو الأمر مبرراً في وسط بيئة لم تستطع أن تناقش مدى جدوى عقوبة الإعدام بحق المتخابرين والمجرمين، ولم تجد من الأصوات ما يكفي لكي تدافع عن حق هؤلاء في الحياة، مقابل معقابتهم بشكل قانونيّ وإنسانيّ. لكن عندما ينجح الكثيرون في تصوير عقوبة الإعدام على أنها ضرورة ويتم إضفاء طابع الشرعية عليها، فيجب التكلم بشكل صريح عن هذه المأساة، حين يسهم الصمت في تحويلها إلى طقس شرعي تمارسه الجهة التي تحتكر العنف (الدولة والمجتمع).

من المعروف أن الحجّة الكبرى لأنصار هذه العقوبة هي عبرة القصاص، فالرؤوس لا تقطع لمعاقبة أصحابها فحسب، بل لتخويف من تغريه التجربة بتقليدهم، عن طريق مثال مخيف. إن المجتمع لا ينتقم، بل يريد أن يقي نفسه. إذا ما إحتجنا إلى تصور مقرب لآثار هذه العقوبة، فإن المجتمع بذلك يشهر رأسه لكي يقرأ عليه المرشحون للقيام بجريمة مستقبلية أفعالهم بشكل واضح. كما يقول الكاتب الفرنسي ألبير كامو.

قد تكون هذه الحجة ذات تأثير لو لم نكن مرغمين على أن نلاحظ أن: "المجتمع نفسه، لا يؤمن بالعبرة التي يتكلم عنها".

لم يثبت أن عقوبة الموت قد جعلت قاتلاً واحداً يعدل عن ممارسة القتل وبالتالي وضعه في خانة أخرى دون نزع انسانيته عنه. ففي بعض الحالات أدت هذه العقوبة إلى الزيادة في الجريمة وإضافة تأثير الإغراء على مجرمين أكثر وخلق مفاهيم مختلطة ومشوهة عن فكرة العدالة التي تقوم بالقصاص النهائي. تأثير إغراء على آلاف المجرمين وزرع مفاهيم مشوهة في من يعاصرون هذه الجرائم.

أنها تشكل مثالا كريها لا يعرف أحد إلى ماذا ستؤدي نتائجه، سوى إلى مزيد من العنف والتدمير الذاتي للبنية المجتمعية القائمة على الاحترام مع الآخر وعدم تهميشه. إن الجهة التي تخوّل نفسها بتنفيذ القانون تزرع هي بذاتها الشك في كل أساليبها المرتبكة، خصوصاً في بيئة مثل قطاع غزة لم تعرف الإستقرار أبداً.

هذه السلطة التي تتوهم بأنها تؤمن بالعبرة في هذه العقوبة، هي بالفعل تفضل التقليد لكي تدرء عن نفسها مشقة التفكير، فتأخذ طريقا مختصرا لتنفيذ إعدامات في وضح النهار أمام الجمهور. أي أن البقاء الفعلي لهذه العقوبة ما هو إلا ترسبات من قوانين القرن الثامن عشر والتي أخذت شكلاً تقليدياً وطابعاً مجتمعياً تخجل الدولة من تغييره بحيث أصبح جزءا من الروتين الذي يفرض نفسه دون مناقشة.

إن جميع الإحصائيات التي تخص البلدان التي ألغت عقوبة الإعدام والبلدان الأخرى، تظهر أنه ليس هناك ترابط بين إلغاء العقوبة والإجرام أو وجودها. أي أن الإجرام لا ينقص ولا يزيد، المقصلة موجودة والجريمة موجودة بشكل واضح ولا يوجد ترابط بينها وبين القانون. أولئك المتشدّقون ممن يمسكون بالسلطة المتطرفة في غزة والفاسدون في الضفة الغربية، أولئك المتورطون في سنّ قوانين وتشريعات لاإنسانية في سبيل البحث عن حل لمأزق لمشاكلهم المتراكمة، أولئك الميّتون سريرياً بعفن الوطن وتحرير فلسطين، لم يستطيعوا أن يفهموا أن العقوبة القصوى حسب فعل "الخيانة" المجرد بنظرهم، لن تزيل من الوجود أي جرائم وأن عوقب الموت قبل قرون لم يؤدي إلى إنقراض جنس قابيل.

توليفة المجتمع والسلطة تخاف من تسمية الأمور بحقيقتها الفعلية، تحتاج إلى أن تعيد النظر في أخلاقياتها، لذلك كما يقول ألبير كامو: "إن القصاص الذي يعاقب دون أن يقي، يسمى بالفعل إنتقاما لا مبرر له". إنه جواب حسابي على من يكنث بقانونه الأساسي، وهذا الجواب القديم يسمى "الثأر". ذلك الإمتياز الفاحش الذي لا يحقق مقتضيات العدالة يعطي الحق بأن يعاقب ذنب نسبي بجريمة القصاص النهائي الذي لا رجعة فيه. إذن المسألة ما هي إلا عاطفة متناقضة وغبية، إذا فقأت عيني فسوف أفقأ عينك، عاطفة عنيفة لا قضية تتعلق بالمبادئ.

مسؤولية من؟

تلك الغريزة التي تقتضي حفاظ المجتمع على نفسه وأفراده، تفرض على أخلاقياته بأن تكون المسؤولية الموجودة مقررة بحق وينبغي قبولها بعيدا عن المثاليات ولكن الحق في وجود تسامح سيحمي المجتمع من الإنهيار ذاتيا. أي أن المسؤولية عن الجريمة لا تقع على المجرم وحده بل يحمل المجتمع أوزارها أيضا مشاركة مع السلطة القضائية الكفيلة بسن تشريعات إنسانية تضمن الحقوق لكل الأطراف وبالتالي عدم وجود عقاب أو ثواب مطلق.

ختاما، يقتضي القول أن الجريمة الموجودة التي بولغ في عقابها تدنس المجتمع مع مر الزمن وتفضح العقوبة بأنها جريمة مضادة لا أكثر.

*الصورة أعلاه: التقطت في تشرين الثاني 2012 لعملية سحل أحد المتهمين بالتخابر مع الاحتلال بعد قتله. تصوير: عادل حنا.