ترجمات خاصة - قدس الإخبارية: إيطاليا التي طالما اعتُبرت قريبة ثقافيًا من "الإسرائيليين" تدخل اليوم في مرحلة صدام حاد مع صورة "إسرائيل"، وفق ما يرى الصحفي والمحلل السياسي "الإسرائيلي" دانيال بتيني، موضحًا أن ما يجري منذ اندلاع حرب غزة تخطى حدود النقد السياسي إلى مستوى غير مسبوق من الكراهية العلنية، حتى باتت إيطاليا إلى جانب إسبانيا من أكثر الدول الغربية التي يشهد شارعها موجة عداء متصاعدة للاحتلال. هذه الأجواء أنتجت شرخًا عميقًا بين الشارع الإيطالي وبين "إسرائيل"، بعدما تحولت الانتقادات إلى مظاهرات ضخمة، وإضرابات شاملة، وأحداث عنف يومية تتصدر العناوين.
ولا يقتصر الأمر على التيارات اليسارية أو المجموعات الداعمة للفلسطينيين، بل يتجلى في مشهد عام يتيح للمتحمسين أن يقودوا الرأي العام بينما يلتزم كثيرون الصمت أو اللامبالاة. هذا الصمت، بحسب بتيني، يترك الساحة مفتوحة للتحريض والاحتجاجات الجماهيرية التي تأخذ طابعًا معاديًا للاحتلال. وبالفعل، تصاعدت مخاوف حتى لدى الجالية اليهودية في إيطاليا، وظهرت في الإعلام ومنصات التواصل شهادات مباشرة عن شعور بالتهديد والاضطهاد لم يعرفوه منذ عقود.
الجامعات تحولت إلى مركز رئيسي لهذا التوتر، حيث انتشرت دعوات المقاطعة الأكاديمية ضد الجامعات "الإسرائيلية"، ووصلت الأمور إلى ضرب محاضر إيطالي لمجرد رفضه هذه المقاطعة. كما أقصيت محاضِرة زائرة من "إسرائيل" في جامعة تورينو لأنها عبرت عن تأييدها لجيش الاحتلال، فيما طالت الشتائم صحفيين "إسرائيليين"، وأُجبر بعضهم على الانسحاب من ندوات عامة. هذه الأجواء، التي توصف بأنها غير مسبوقة، تعكس تحول الجامعات من فضاء للنقاش إلى ساحة تحريض.
الإضراب العام الذي قادته النقابات في قطاع النقل شكّل لحظة فارقة. فقد توقفت حركة الموانئ، وأُغلقت الطرق السريعة والمفترقات المركزية في مدن مثل روما وميلانو ونابولي، وخرج مئات الآلاف إلى الشوارع تعبيرًا عن تضامنهم مع الفلسطينيين. في ميلانو تحديدًا، شهدت البلاد مواجهات عنيفة بين المتظاهرين والشرطة، وانتهت بتحطيم محطة القطار المركزية وإصابة عشرات العناصر الأمنية، في مشاهد صاخبة لم تعرفها البلاد منذ سنوات طويلة.
الإعلام الإيطالي، كما يصوره بتيني، لعب دورًا مركزيًا في تكريس هذه الأجواء. فقد كرّس مساحة واسعة لعناوين متكررة عن مجازر إسرائيلية ضد الأطفال. في هذا السياق، تحولت كلمة "الصهيونية" في المخيال العام إلى مرادف للعنصرية والوحشية، وأصبحت تهمة تُلصق بأي صوت يحاول تفهم موقف الاحتلال. هذا التحول اللغوي والإعلامي عزز مناخ الرفض لـ"الإسرائيليين" وسهّل على قطاعات واسعة من المجتمع الاصطفاف إلى جانب الفلسطينيين.
حتى في عالم الثقافة والرياضة، انعكست هذه الأجواء بقوة. مئات المدربين دعوا إلى طرد "إسرائيل" من جميع المسابقات الرياضية، بينما لم يتردد فنانون مشهورون في شرعنة العنف ضد "الإسرائيليين" أو حتى التشكيك في أحداث السابع من أكتوبر. هذه المواقف، التي تتردد على ألسنة رموز ثقافية ورياضية، منحت العداء شرعية إضافية، ورسخت صورة سلبية عن "إسرائيل" لدى جمهور واسع.
الذروة الجديدة جاءت مع موقف رسمي صادم، حين أعلن وزير الدفاع الإيطالي أن سفينة تابعة للبحرية سترافق قافلة بحرية متجهة إلى غزة، بعد أن اتهم المشاركون الاحتلال بمهاجمتها. هذا التصريح اعتُبر خطوة قد تفتح الباب إلى مواجهة مباشرة مع "إسرائيل"، فيما اعتبرت المعارضة الإيطالية أن الهجوم على سفن تحمل العلم الإيطالي يشكل اعتداءً على الأمن القومي. هذه اللهجة، الصادرة من مستويات رفيعة، تكشف عمق الأزمة في العلاقات الثنائية.
ورغم هذه التطورات، يشير المحلل السياسي "الإسرائيلي" بتيني إلى أن رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني لا تزال متمسكة بموقف مختلف، إذ ترفض الانجرار وراء موجة الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية، وتصر على أن أي حل يجب أن يبدأ بتفكيك حركة حماس وإطلاق سراح الأسرى "الإسرائيليين". ميلوني، التي تحافظ على علاقة وثيقة مع ألمانيا ومع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تُعتبر خط الدفاع الأخير عن منع فرض عقوبات أوروبية قاسية على الاحتلال. ومع ذلك، فهي نفسها لا توفر انتقادات لاذعة لحكومة نتنياهو، ما يعكس توازنًا هشًا بين الضغوط الداخلية والخارجية.
المعضلة التي يطرحها بتيني تتعلق بمدى قدرة ميلوني على الصمود في وجه الشارع الإيطالي والإعلام والمعارضة. فمع اتساع دائرة الغضب الشعبي، واستمرار وزرائها في استخدام مصطلحات مثل مجزرة لوصف كل عملية عسكرية في غزة، تبدو إيطاليا وكأنها على حافة تغيير جذري في موقفها. في النهاية، يحذر الكاتب من أن دعم إيطاليا لـ"إسرائيل" لم يعد إلا مسألة وقت، وقد ينهار تحت ضغط الشارع، لتجد روما نفسها منخرطة بالكامل في جبهة أوروبية متصاعدة ضد الاحتلال.