غزة - خاص قدس الإخبارية: سنة دراسية انتهت في بعض النقاط التعليمية في قطاع غزة، وعلى وشك الانتهاء في نقاط أخرى، لتبدأ بعدها برامج تعويضية لمن لم يتمكنوا من الالتحاق بالدراسة في وقتها، وكذلك مخيمات صيفية وفعاليات ترفيهية ودورات في مجالات عدّة، يبدو ذلك أمرا باعثا للتفاؤل كونه يحدث تحت الإبادة، ولأنه يحمل دلالة على اهتمام الفلسطينيين بالتعليم حتى في الظروف الصعبة.
ولكن بنظرة أقرب للواقع التعليمي، فإن من أول الملاحظات الظاهرة ضعف تركيز أغلب الطلبة، وتشتت انتباههم، وتراجع تحصيلهم العملي، والسبب واضح، المجاعة، التي أفقدت كثيرا من الطلبة وعيهم أثناء الدوام المدرسي. وهذا ما نتحدث عنه في السطور التالية، مع تجديد التأكيد على أن المجاعة ما تزال قائمة، وما سمح الاحتلال بإدخاله من مساعدات وبضائع أقل كثيرا من الحاجة الفعلية للقطاع، وأسعار مرتفعة جدًا.
كانوا متفوقين
خلال أيام ينتهي العام الدراسي، وبعده تبدأ فعاليات صيفية وترفيهية، في النقطة التعليمية التي يدرس فيها أبناء آمال صافي، ورغم قناعتها بحاجتهم لها، لم تسجل أسماءهم للمشاركة فيها.
تقول صافي لـ "شبكة قدس": "من حسن الحظ أن النقطة التعليمية التي يدرس أبنائي فيها تكتفي بثلاثة أيام دوام في الأسبوع لكل مرحلة، وهذا النظام ساعد في استمرار دراستهم".
وتضيف: "في أيام السبت والاثنين والخميس، أزيد حصتهم من الخبز، فأعطي كل منهم نصف رغيف إضافي ليتناولوه بين الحصص، أخاف كثيرا أن يتعبوا بسبب نقص الطعام".
هذا الجدول ساعد صافي في تدريسهم أيضا، فهم يحصلون على معلومات محدودة يمكنهم استيعابها، تُراجعها معهم وتُتبعها بكتابة الواجبات المنزلية، وذلك في اليوم الذي لا دوام فيه، لكي تضمن تركيزهم وقدرتهم على الحفظ، فالمجاعة أثرت بشكل واضح على قدراتهم هذه.
وعن عدم إلحاقهم بالفعاليات الصيفية، توضح: "أعرف أن الطفل بحاجة ماسّة للترفيه والتفريغ النفسي والانشغال بأي شي في هذه الظروف الصعبة، لكن هؤلاء ثلاثة ذكور، حركتهم كثيرة، والفعاليات الترفيهية تعتمد على الحركة، بالإضافة إلى أن مدرستهم ليست إلا مجموعة من الخيام التي تتحول لأفران في الصيف، وهذه العوامل كلها تزيد حاجتهم للطعام".
وتبين أن أحد أبنائها، في الصف الثالث الابتدائي، أمضى الشهور الثلاث الأخيرة وهو "يحلم في الخبز"، ففي اليوم الذي يسبق الدوام، تكثر أسألته للتأكد من توفر خبز لليوم التالي، وأحيانا يحتفظ بجزء من حصته للعشاء ليضمن حصوله عليه صباحا.
عن نفس المعاناة، بشكل أقسى، تقول فاطمة خويطر: "نزحت من بيتي قبل أربعة أشهر تقريبا، وكان من أول ما فعلته أن بحثت لأبنائي عن مكان يدرسون فيه، فالتعليم أولوية مهما كانت الظروف".
وتضيف: "لم أجد مكانا قريبا إلا لأصغر اثنين، في المرحلة الابتدائية، أما البنات الثلاث الكبيرات، في المرحلتين الإعدادية والثانوية، فقد اكتفيت بمتابعة دراستهن إلكترونيا، لا يمكن إرسالهن لمكان بعيد حاليا، خوفا عليهن من جهة، وبسبب أزمة المواصلات من جهة أخرى".
رغم صعوبة شحن الهواتف الذكية والحصول على إنترنت، فإن خويطر تحمد الله أن ثلاثة من أبنائها يدرسون من الخيمة، لأن التوجه للمدرسة يحتاج طاقة، وهي مطلب صعب المنال في ظل المجاعة.
وتشير إلى أن ابنها فقد وعيه في المدرسة الشهر الماضي حين اشتدت أزمة الدقيق، كانت آخر وجبة تناولها قبل الذهاب للمدرسة غداء اليوم السابق، والذي كان نصف رغيف مع "دُقّة"، أي أنه لم يكن مغذّيا، كأغلب الطعام المتوفر في الحرب.
وتبيّن: "أبنائي كانوا متفوقين، الآن كلهم فقدوا التركيز وتراجعت مستوياتهم وقدرتهم على التحصيل العلمي وانخفضت درجاتهم، ولم أعد قادرة على متابعتهم ومساعدتهم، فأنا أيضا فقدت طاقتي، وكذلك لا يمكنني الضغط عليهم ليدرسوا أكثر، فالجوع سيء".
حلولٌ بالإمكانيات المُتاحة
"أمس، فقدت طالبة وعيها في الفصل، ولما أفاقت أخبرتني أنها لم تأكل منذ أربعة أيام، حدث هذا رغم التحسن الطفيف الذي شهدته الأسواق، فالواقع ما يزال صعبا، والمجاعة مستمرة"، هذا ما تقوله وفاء شبير، مديرة مدرسة الأمل، لـ "شبكة قدس".
وتضيف: "تأثَّر الطلبة كثيرا بسبب المجاعة، من حيث التركيز والانتباه والتفاعل داخل الصف والمشاركة في الفعاليات المختلفة، مثل الدبكة والتمثيل، لا طاقة لهم للقفز في الدبكة ولا للوقوف على المسرح ولا حتى حفظ نص المسرحية، وتراجعت مستويات بعضهم وقدرتهم على الحفظ"، متابعة: "يزيد الأثر وضوحا على الأصغر سنا".
بدأت المجاعة خلال العام الدراسي، وما تزال مستمرة مع البرامج الصيفية، وعن تفاصيل هذه البرامج، توضح: "أطلقنا برنامج الفاقد التعليمي، لمن لم يتمكن من الاستمرار بالدراسة في مكان سكنه بسبب النزوح، أو لمن لم يُتابع التعليم الإلكتروني بفعل مشاكل الكهرباء والإنترنت، وكذلك عدد من الدورات التأسيسية في مواد اللغتين العربية والانجليزية والرياضيات، ودورات أخرى في مجالات مختلفة مثل أحكام التلاوة والتجويد والقاعدة النورانية، بالإضافة إلى مشروع (تيجان النور لحفظ القرآن في سبعة شهور) المُستمر منذ مايو الماضي".
تبين شبير أن قلة قليلة من الأطفال يُحضرون خبزا لتناوله خلال اليوم الدراسي، وغالبا يكون سادة غير محشو بأي شيء، وهؤلاء تطلب منهم المعلمات الخروج من الفصل وقت الطعام لعدم إثارة شهية وحزن باقي الطلبة.
وتلفت إلى توقف المقصف عن العمل في الفترة السابقة، لعدم توفر أطعمة وتسالي مناسبة للأطفال، ولعدم وجود ماد خام لصنع أصناف خاصة بهم.
وتشير إلى عوامل تساهم في زيادة تعب الطلبة من التجويع، منها الوضع النفسي والخوف من نقص الطعام، وأزمة المواصلات، فأغلبهم يتوجهون للمدرسة مشيا، ويعودون منها لبيوتهم مشيا، بالإضافة إلى ارتفاع درجات الحرارة، ناهيك عن المهام الجديدة عليهم حاليا.
وتضرب مثالا على ذلك بطالبة تأخرت ساعة عن الدوام، واتضح أنها كانت تنقل جالونات المياه للطابق الرابع، وأخرى انهارت بكاء لأنها "تعبانة"، وتشعر أن فوقها "جبلا" بعد استشهاد صديقتها الأقرب، ابنة عمها، وقد كانت تحفظ سابقا خمس صفحات من القرآن يوميا، الآن لا تستطيع أن تحفظ آية واحدة.
ترى شبير في إصرار الطلاب وأولياء الأمور على مواصلة الدراسة دليلا على مكانة التعليم عند الفلسطينيين، "فرغم الحرب يبحث الأهالي، كعادتهم، عن فرص تعليم أبنائهم، والأطفال أصبحوا أكثر حرصا على الأمر، فمن لا يجد الرسوم الرمزية التي تطلبها المدرسة (6 دولارات)، يرجو إدارتها أن تعطيه فرصة مجانية".
للتعامل مع الواقع الصعب، اضطر طاقم المدرسة للتفكير في هموم عديدة لم تكن ضمن أعماله من قبل، لتوفير حلول تساعد على استمرار العملية التعليمية قدر الإمكان.
تنظّم شبير جدول الحصص بما يتناسب مع قدرة الطلبة على الدوام، تضع فترات راحة قصيرة بين الحصص، وتجعل المواد الصعبة في نفس اليوم، ليصبح متاحا للطالب الاكتفاء بهذا اليوم والغياب في أيام أخرى، وكذلك توصي المعلمات بتصوير السبورة مكتوبا عليها شرح الدرس وإرسال الصور عبر مجموعات واتس آب لأجل من لم يحضر، فتقليص الدوام يعني توفير الطعام والطاقة وتكلفة المواصلات.
وبالنسبة لحفظ القرآن، فالأصل أن يتم التسميع وجاهيا ويوميا، لكنها سمحت بالتواصل الإلكتروني أو تسميع ما حفظه الطالب خلال أسبوع كامل في يوم واحد، وتشير إلى أن المدرسة توفر السكر والمربى رغم الغلاء الشديد للتعامل مع حالات الإغماء المتكررة.
تفعل المديرة والمعلمات كل هذا وهن منهكات كطلبتهم تماما، تقول شبير: "أسكن بعيدا عن المدرسة، أخرج صباحا بلا إفطار، أمشي مسافات طويلة، فأصل المدرسة بحال أقرب للإغماء، وأحتاج وقتا لأتحسن، وخلال الدوام أشعر بالدوار عدة مرات"، مضيفة: "هذا حال كل المعلمات، نحن نجاهد لأجل طلبتنا ولتقديم خدمة كاملة لهم".