متابعة - شبكة قُدس: في الوقت الذي تشهد فيه علاقات العديد من الدول الأوروبية مع “إسرائيل” تراجعًا ملحوظًا، مدفوعة بتصاعد الانتقادات لجرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة، تتجه القاهرة في الاتجاه المعاكس، معزّزة تعاونها الاقتصادي مع تل أبيب. وبينما تتحرك برلمانات غربية لتقييد الصادرات وحظر المنتجات القادمة من المستوطنات، وقّعت مصر اتفاقًا جديدًا مع الاحتلال يُعد الأضخم في تاريخ صفقات تصدير الغاز الإسرائيلي، ما يعكس مفارقة صارخة في مواقف بعض الأنظمة العربية مقارنة بالمزاج الشعبي والدولي الرافض للتطبيع.
بحسب تقرير نشرته صحيفة معاريف العبرية، وقّعت شركة “نيو-ميد إنرجي” الإسرائيلية، التابعة لمجموعة “ديلك” التي يمتلكها رجل الأعمال يتسحاق تشوفا، اتفاقًا ضخمًا مع مصر لتصدير الغاز الطبيعي بقيمة تقديرية تبلغ نحو 35 مليار دولار، تمتد حتى عام 2040. وتُعد هذه الصفقة، وفق الصحيفة، أكبر اتفاق تصدير في تاريخ "إسرائيل"، وتشكل خطوة إضافية نحو ترسيخ موقعها كقوة إقليمية في مجال الطاقة.
ويشمل الاتفاق مرحلتين رئيسيتين؛ تتضمن الأولى تصدير 20 مليار متر مكعب (BCM) من الغاز الطبيعي خلال السنوات القليلة المقبلة، بينما تُربط المرحلة الثانية بتوسعة حقل “ليفياثان”، أكبر حقول الغاز التابعة للاحتلال، ليُصدَّر بعدها 110 مليار متر مكعب إضافية إلى السوق المصرية. ويأتي هذا الاتفاق لتوسيع نطاق الاتفاق السابق الذي وُقّع عام 2019، والذي شمل تصدير 60 مليار متر مكعب من الغاز.
رئيس مجلس إدارة “نيو-ميد إنرجي”، وصف الاتفاق بأنه “محطة تاريخية” تُكرّس مكانة “إسرائيل” كمركز استراتيجي للطاقة في الشرق الأوسط. وأكد في تصريحه لـمعاريف أن هذه العوائد لن تقتصر على المستثمرين، بل ستصل إلى الجمهور الإسرائيلي من خلال صندوق الثروة السيادي، الذي يُموَّل عبر “ضريبة أرباح فائضة” تُفرض على شركات الطاقة، وتُحوّل عائداتها مباشرة إلى الخزينة وصناديق الأجيال المستقبلية.
هذا التصريح يعكس أن الاحتلال لا ينظر للصفقة من زاوية اقتصادية فحسب، بل يراها أيضًا أداة استراتيجية لتوسيع نفوذه في المنطقة، مستغلًا تواطؤ بعض الدول العربية معه.
معاريف أشارت إلى أن الصفقة الجديدة لا تصب فقط في صالح دولة الاحتلال، بل تُشكّل أيضًا مصدر أرباح طائلة لرجل الأعمال يتسحاق تشوفا، في لحظة حساسة من مسيرته المالية. فمجموعته منخرطة حاليًا في صفقة مثيرة للجدل لشراء شركة “يسرائكرت”، إحدى أكبر شركات بطاقات الائتمان في “إسرائيل”، وهي صفقة لا تزال خاضعة للمراجعة القضائية أمام المحكمة العليا.
في تصريح لافت، نقلته معاريف عن يتسحاق تشوفا، قوله إن الصفقة تعكس “تقديرًا عميقًا ومتبادلًا” بين شركته والجانب المصري، وأنها تُجسد شراكة إقليمية طويلة الأمد تُسهم في تعزيز الاستقرار بالمنطقة. وأضاف أن حقل “ليفياثان” لم يعد مجرد منشأة لاستخراج الغاز، بل أصبح “منصة إقليمية” لإقامة تحالفات اقتصادية مبنية على المصالح والرؤى المشتركة.
هذا الخطاب ينسجم مع توجّه “إسرائيل” منذ سنوات لتوظيف احتياطاتها من الغاز في بناء علاقات استراتيجية مع عدد من الدول العربية، وهو توجّه تعزّز بعد توقيع اتفاقيات التطبيع ضمن ما يُعرف بـ”اتفاقيات أبراهام”.
ولفتت معاريف إلى أن الصفقة ستنعكس بشكل مباشر على الأذرع المالية لمجموعة “ديلك”، خاصة شركة “يسرائكرت”، مرجحة أن تشهد تحولات استراتيجية في مجال التمويل والائتمان. وبذلك، يظهر بوضوح كيف تتقاطع قطاعات الطاقة والمال والإستراتيجية في حسابات النخبة الاقتصادية الإسرائيلية، وتوظَّف ضمن منظومة تخدم أهداف الاحتلال الاقتصادية والجيوسياسية.
الاتفاقية الأخيرة ليست سوى وجه واحد من وجوه التعاون المتسارع بين القاهرة وتل أبيب. فوفقًا لمعطيات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، شهدت العلاقات التجارية بين مصر والاحتلال قفزة كبيرة خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2024، حيث بلغت نسبة النمو 51% مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2023، ليصل حجم التجارة الثنائية إلى 430.8 مليون دولار.
وتُظهر البيانات الشهرية مسارًا تصاعديًا واضحًا: في أيار بلغ حجم التبادل 66.4 مليون دولار، وارتفع في تموز إلى 76 مليونًا، بينما سجّل شهر أيلول وحده 64.5 مليون دولار، بزيادة سنوية نسبتها 118% مقارنة بأيلول 2023. هذه الأرقام تؤكد أن العلاقات الاقتصادية بين البلدين لا تتأثر لا بالحرب على غزة، ولا بجرائم الاحتلال المستمرة، بل تتجه نحو مزيد من التوسع.
هذه المعطيات تظهر مفارقة كبيرة. ففي الوقت الذي يزداد فيه الرفض الشعبي والدولي للعدوان على غزة، ويُطالب ملايين في العالم بعزل الاحتلال ومقاطعته، تواصل مصر الرسمية تعزيز شراكاتها الاقتصادية مع “إسرائيل”، في ما يُعد استثمارًا مباشرًا في اقتصاد الاحتلال خلال واحدة من أحلك فصول الإبادة في التاريخ الفلسطيني الحديث. وبينما يواجه المواطنون في غزة المجاعة والدمار، تُبرم صفقات المليارات على أنقاضهم، وتُكرَّس دولة الاحتلال قوة طاقة إقليمية برعاية عربية رسمية. إنها مفارقة التطبيع في زمن المجازر.