أثارت الإنزالات الجوية لبعض المواد الغذائية على قطاع غزة مؤخرا جدلا كبيرا بين ناقد وحامد، إذ ثمة من يرى الأمر من باب تقديم أقل الواجب لدعم وإسناد أهل القطاع الذين يعانون أوضاعا إنسانية صعبة، وبالتالي فهي خطوة تستحق الشكر والتشجيع رغم تأخرها. وهناك من رأى بأنها لم تخدم الهدف الأساسي الذي يفترض أنها تبغيه، حيث سقط جزء مهم منها في البحر وأجزاء أخرى في وسط القطاع وجنوبه وليس في الشمال الذي يعاني حالة التجويع الأقسى، فضلا عن بعض الحركات الاستعراضية "غير اللائقة" من وجهة نظرهم مثل مرافقة بعض مؤثري وسائل التواصل للقوات المسلحة في عملية الإنزال.
فالقوات المسلحة الأردنية كانت قد أعلنت عن تنفيذ عدة إنزالات سابقة من الجو للمستشفى الميداني الأردني في القطاع، قبل أن تعلن مؤخرا عن إنزال لأهل غزة مباشرة، كما أعلن عن مشاركة دول عربية أخرى -مصر والإمارات - في أحد الإنزالات.
وبالنظر إلى الأوضاع الإنسانية الكارثية التي يعانيها سكان القطاع بشكل ممنهج من قبل الاحتلال بدءا بالقتل ومرورا بالحصار وليس انتهاء بالتجويع، فإن أي جهد باتجاه تقليل هذه المعاناة يستحق الإشادة والتحفيز لما هو أكثر، بيد أننا نحتاج في البداية لتثبيت بعض المعطيات المهمة، وفي مقدمتها:
أولا، رغم أن مجمل مناطق قطاع غزة تعاني أوضاعا إنسانية سيئة، من حيث أعداد الشهداء والجرحى ودمار البيوت والبنى التحتية والنزوح وظروف الإيواء الصعبة وضعف الخدمات الصحية، إلا أن الظروف الأصعب يعانيها أهل محافظتي شمال غزة وغزة الذين صمدوا في مناطقهم وواجهوا ضغوط الاحتلال بالنزوح جنوبا، ويعانون في الأيام الأخيرة من حالة تجويع حقيقي مقصودة أوصلت البعض منهم لتناول أعلاف الحيوانات ووفاة البعض تضورا من الجوع، ما يعني أن الأولوية القصوى بلا نقاش هي لإغاثة أهل الشمال قبل غيرهم.
ثانيا، أن الإنزالات فيما يبدو بداهة تتم بالتنسيق مع سلطات الاحتلال "الإسرائيلي"، ومن هو قادر على التنسيق لإنزال من الجو يفترض أن يكون قادرا على التنسيق لإدخال المساعدات برا، إن صدقت النوايا.
ثالثا، إن الكميات التي يمكن إنزالها من الجو قليلة جدا ولا تكاد تكفي طعام يوم واحد لمن يحصل عليها -في حال حصل عليها- وهم الأقلية، وبالتالي فإن ما أُنزل ويمكن أن ينزل لاحقا لا يكفي لسد الرمق فضلا عن كسر الحصار، على عكس البروباغندا السائدة.
رابعا، أن ما يحتاجه سكان القطاع ليس المواد الغذائية فقط على أهميتها وأولويتها، بل ثمة حاجة ماسة للأدوية وحليب الأطفال والمواد الصحية وغير ذلك الكثير من المواد الأساسية والضرورية.
خامسا، أثبتت عمليات الإنزال أنها كانت ممكنة طول الوقت، وبالتالي أنها أتت متأخرة جدا، وهذا جزء أساسي من التقييم لا ينبغي إهماله إلى جانب المعايير الأخرى. كما أنها أتت بعد الكشف عن الجسر البري للبضائع التي تمر لدولة الاحتلال عبر دول عربية منها الإمارات والأردن، والذي -أي الجسر البري- رغم النفي الرسمي ما زال يحظى بمصداقية عالية بالنظر للقرائن القائمة عليه، ما يطرح سؤالا وجيها عن الهدف الرئيس للإنزالات بين المساعدات وتخفيف الاحتقان الداخلي.
سادسا، ينبغي التنبه للحد الفاصل بين تخفيف حدة الحصار والجوع عن أهل غزة وتخفيف الضغوط عن الاحتلال الذي يحاول تجميل صورته والادعاء بأنه يسمح بدخول المساعدات ولا يحاصر غزة أو يمنع عنها الغذاء، على عكس الحقيقة.
سابعا والأهم، واجب الوقت هو فتح المعابر البرية وإدخال المساعدات من مختلف الأنواع لسكان قطاع غزة في كل المناطق، وهذا أمر محميٌّ قانونيا وسياسيا وممكن عمليا وكافٍ للناس؛ بخلاف الإنزالات الجوية التي تعمل مثل المسكّنات المؤقتة فقط.
وبالتالي، وبالنظر لكل ما سبق والوقائع التي شابت عمليات الإنزال، نكون أمام أحد أربعة سيناريوهات قد يتحقق أحدها أو أكثر في الوقت ذاته حسب الوقائع:
الأول، تخفيف حدة الجوع ولو بالحد الأدنى إذا ما ركزت الإنزالات على مناطق شمال القطاع على وجه التحديد وتجنبت البحر ومناطق الوسط والجنوب (ولو مرحليا)، وهذا مقدور عليه إذ رأينا أكثر من مرة دقّة الإنزالات على المستشفى الميداني.
الثاني، عمليات إنزال بروتوكولية وبكميات قليلة غير مؤثرة هدفها الرئيس تخفيف الاحتقان الداخلي في وجه الجسر البري على وجه التحديد.
الثالث، عملية دعاية وبروباغندا دون أن يكون ثمة رصيد واقعي للإنزالات، باستمرار الشكل الحالي غير المؤثر على الحقيقة.
الرابع، استمرار إنزال الغذاء والمساعدات على مناطق وسط القطاع وجنوبه دون الشمال، ما قد يجبر بعض السكان الصامدين في الأخير على تركه نحو الوسط والجنوب تعلقا بأمل الحياة، ما يعني أن الإنزالات بهذه الصيغة تخدم هدف الاحتلال المعلن بتفريغ الشمال من سكانه وإعادة احتلاله، أو حتى ضمه لدولة الاحتلال وفرض واقع سياسي وأمني وإداري مختلف فيه بعد انتهاء العدوان.
مما سبق، يتضح أن فكرة الإنزالات غير كافية بمفردها وبشكل مجرد لخدمة أهل غزة ونصرتهم، بل غير كافية لوحدها للتدليل على حسن النوايا، إذ ذلك منوط إلى حد كبير بالتفاصيل والوقائع والنتائج. فيمكن، كما سبق تفصيله، أن تخفف الإنزالات عن بعض أهل غزة واقعهم الإنساني الصعب نسبيا ويمكن أن تخدم خطط الاحتلال بالتهجير جنوبا، وبينهما سيناريوهات أخرى وسيطة.
وعليه، على الدول العربية أن تقرر بشكل دقيق ما الذي تريد فعله وبأي وسيلة، وأن تدرك أن الشعوب والنخب اليوم أكثر وعيا مما يُتصور ويُتوقع، ولا تنطلي عليها الكثير من أساليب الدعاية والتضليل.
ورغم أننا ما زلنا نقول ونؤكد أن دخول المساعدات عبر المعابر البرية، وفي مقدمتها وأهمها معبر رفح مع مصر، هو واجب الوقت وأنه ممكن وضروري، إلا أنه لا يمكن رفض الإنزالات من الجو بالمطلق، بل ينبغي تقييمها وفق المعايير التي سلف ذكرها.
ليس من باب الشعارات ولا المزايدات ولا الشعبوية، لكن سكان غزة ومعهم الشعوب العربية والمسلمة تتابع عن كثب تفاصيل ما يحصل، وأيَّ هدفٍ ستخدم هذه الإنزالات في نهاية المطاف. وبالتالي فأداء الأنظمة والدول العربية ستشهد عليه الشعوب والتاريخ والله، وسيكون له ما بعده. فإن كانت بعض هذه الأنظمة عجزت و/أو تقاعست عن النصرة، وبعضها مد يد العون للاحتلال بالبضائع التي يحتاجها خلال الحرب، فإن مآلات هذه الإنزالات ستكون معيارا إضافيا للتقييم.