الضفة المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: يعيش المجتمع الفلسطيني في الضفة المحتلة حالة "معقدة"، كما يصفها محللون وخبراء في علم الاجتماع، يتداخل فيها الصراع الاقتصادي - الاجتماعي الطبيعي الذي تعيشه كل المجتمعات، وذلك الناتج عن الحالة الاستعمارية وما أفرزته من مشاكل خاصة، في ظل تراجع "المشروع السياسي والتنظيمي" للسلطة الفلسطينية، وغياب "سلطة قانون" تحمي المجتمع من مزيد من "التوحش الداخلي".
السنوات الماضية سجلت كما تظهر الإحصائيات الرسمية صعوداً في معدل الجرائم، التي لا تتوقف على إراقة الدماء بل تتعداها إلى جرائم كانت في الهامش، خلال العقود السابقة، بينها السطو المسلح وتجارة المخدرات وغيرها من الجرائم ذات الطابع الاقتصادي، في ظل اكتساب هذه الجرائم "بُعداً أكثر ضرراً" في المجتمع الفلسطيني عن غيره، نظراً لوجود الاحتلال الذي يستفيد من كل ثغرة في البناء الاجتماعي والنفسي للإنسان الفلسطيني، كما تؤكد الوقائع التاريخية والمجتمعية.
كيف نفهم "العنف الداخلي"؟
الباحث في العلوم الاجتماعية والسياسية وطالب الدكتوراة، عبد الجواد حمايل، يرى أن تحليل هذا العنف لا يتوقف على عامل واحد، بل هو محكوم لــ"ديناميكية/ حركة" معقدة من الظروف، وقال: لكن التحليل البسيط يقول إنه كلما فقدنا القدرة على العمل ضد الاحتلال يرتد العنف أو الجريمة إلى المجتمع الداخلي، وهذا لا يعني أن فلسطين لم تعش الجرائم قبل الاحتلال، التاريخ يقول إن المنطقة عاشت أحداث عنف سابقاً، لكن بأنماط مختلفة، لذلك من الضرورة دراسة النمط الحالي من العنف الداخلي.
وعن دور الاحتلال، يقول حمايل: "الاحتلال ليس بالضرورة أن يكون سبب كل شيء بل هو موجود في كل شيء بطريقة ما"، وهو يشير إلى مواقع ناشطة في المقاومة ضد الاحتلال شهدت جرائم قتل أثرت على قوة الحراك الثوري لاحقاً، ويعتقد أنه قد يكون "العنف الداخلي" أحد أدوات السيطرة على المقاومة.
وتابع: من الصعب تحديد سبب واحد لحالة الجرائم أو العنف الداخلي، وهي مرتبطة بتحولات اقتصادية - اجتماعية، في الوقت الذي فقدت فيه بعض الطبقات "أمل" من حالة المقاومة لذلك تتجه نحو بناء أنماط قوة، بالإضافة لانتشار السلاح بكثافة في المجتمع، في هذه السنوات أصبح من السهولة الوصول للسلاح والشراء.
عن دور وسائل التواصل
سجلت السنوات الماضية انتشاراً لوسائل التواصل الاجتماعي، التي تحمل أنماطاً مختلفة من التواصل، لكن روادها في الغالب هم من الجيل الشاب الذي يقود جزء منه الآن حالة المقاومة في الضفة المحتلة، بينما تورط جزء آخر في حالة الجريمة، ويرى خبراء ومراقبون أن "التجييش" واللعب على "الانفعالات" على مواقع مثل "التيك توك"، من خلال أغاني تركز على العنف و"تضخيم الذات" وغيرها، سبباً في حالة "العنف الداخلي"، حسب تعبيرهم.
يعتقد حمايل أن هناك "مبالغة في الحديث عن دور الإعلام"، ويضيف: لا اعتقد أن للإعلام ووسائل التواصل دور رئيسي أو مهم، في هذه الجرائم، خاصة أننا في الضفة لسنا أمام حالة جريمة منظمة كما في الداخل المحتل مثلاً، بل جرائم على خلفية خلافات شخصية أو عائلية.
ويؤكد على الدور الاقتصادي في ارتفاع معدلات الجرائم، ويوضح: الشعب الفلسطيني جرب أنماطاً اقتصادية جديدة، في السنوات الحالية، تركز على الاستهلاك والتمايز الطبقي فيه، منذ القديم يعيش المجتمع الفلسطيني طبقية، لكن ليس بالأنماط الاستهلاكية الحالية، لذلك بعض الناس يحاول اختصار السلم الطبقي من خلال الجرائم الاقتصادية "السلب، وتجارة المخدرات"، وهذه عوارض لمجتمع يعيش أزمة اقتصادية، في ظل وجود فئة كبيرة من الشباب تعاني البطالة وانعدام الأمل.
العشائر: مشكلة أم جزء من الحل؟
وعن دور العشائر في مسار انفجار العنف الداخلي وضبطه، يرى حمايل أن العشيرة "جزء من المشكلة" بفعل تقديمها العائلة على "القانون"، إن كان "في فلسطين قانون أصلاً"، حسب وصفه.
ويضيف: تقديم العشيرة أنها صاحبة الدم يضعف القانون، لكن في الوقت ذاته قد يخلق رادعاً للآخرين عن ارتكاب الجرائم، نظراً للثمن الذي يعلم أنه سيدفعه، وفي الوقت ذاته أحياناً قد تؤدي الآليات العشائرية لتفاقم الجرائم وإلحاق الضرر والقتل بآخرين أبرياء ليس لهم ذنب سوى موقعهم العائلي.
أين التنظيمات؟
مثلت التنظيمات السياسية في فلسطين المحتلة كيانات اجتماعية، لها أداور أبعاد من الإطار التنظيمي - الحركي والنضالي في مواجهة الاحتلال، بل كان لها حضورها في المجتمع وقدرة في سنوات ماضية على احتواء الإشكاليات أو معالجتها، في ظل غياب "سلطة سياسية" تحكم الفلسطينيين، والحاجة إلى عدم منح الاحتلال فرصة التحكم في المجتمع، من خلال أدواته القضائية والتنفيذية، لكن إقامة السلطة الفلسطينية بعد اتفاقيات التسوية انطلاقاً من عام 1993، والضربات المتلاحقة التي تعرضت لها الحالة التنظيمية الفلسطينية، خاصة في الضفة المحتلة، خلقاً فراغاً وسؤالاً دائماً عن غياب الفصائل عن المعالجة الاجتماعية، والثمن الذي دفعه المجتمع من هذا الغياب.
يقول حمايل في هذا السياق: السؤال الذي يطرح اليوم هل ما زالت التنظيمات تملك القدرة في التأثير على الناس كالسابق؟ بالطبع لا، حتى في الطبقات المنخرطة تنظيمياً، اليوم ترى هذه الفئات أن التنظيم لا يملك سلطة كاملة في التحكم به، لذلك فالتنظيمات فقدت سلطتها الاجتماعية والقدرة على الحل.
وتابع: لكن حتى لا نتحدث في المطلق ونقع في مغالطة التعميم، في بعض المواقع شخصيات تنظيمية ووطنية تملك رصيداً اجتماعياً يساعدها في عمليات حل الإشكاليات الاجتماعية.
وقال: نحن نعيش أنماطاً مختلفة من الجريمة لا تتوقف على القتل أو السلب، بل جريمة سياسية كبرى، في مجتمعنا اليوم فقدت السلطة موقعها ومشروعها، في مرحلة ماضية كانت فئات واسعة تعيش أملاً في أن تحقق السلطة مشروعاً سياسياً أو اقتصادياً، لكن في الواقع الحالي فقدت قوتها على كل المستويات خاصة القانونية، لذلك يتوجه الناس نحو أخذ الحق بأيديهم بوسائل يرون أنها أكثر نجاعة.
ويشير إلى أن هذه "الديناميكية" تدفع الناس نحو تحقيق "الأمن والأمان بأيديها" وهذا ليس فقط على مستوى الجرائم بل في حركة المقاومة التي تريد القول إن المجتمع قادر على الدفاع عن نفسه.
وأضاف: عندما تتآكل الثقة بالمؤسسة والأحزاب وأي جسد خارج العشائرية تنتعش حالة العودة للطائفية والعائلية والعشائرية والاحتماء بها.
ماذا تقول العشائر؟
الشيخ عبد الوهاب غيث أحد الوجوه العشائرية، في الخليل، يرى أن أسباب "انفجار العنف الداخلي" في المجتمع الفلسطيني في الضفة، يعود إلى "ضعف الوازع الديني" و"التقصير من قبل القضاء في معالجة القضايا والأجهزة الأمنية في ردع المجرمين".
وأضاف: القاعدة معروفة وهي أن "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" لذلك نحتاج لمنظومة ردع متكاملة.
وعن رأيه في الرأي القائل إن "الجيل الشاب الحالي من الفلسطينيين يعيش أنماطاً أكثر وحشية في الجرائم"، قال: الجيل الحالي عاش في السنوات الماضية في ظل غياب النظام وعدم فاعليته، في ظل انتشار السلاح بين الشباب، أضعف رمزية الكبار بينهم، لذلك نرى أن جزء من هذا الجيل يريد الاحتكام للسلاح وفرض ما يراه.
ورداً على "هل فقدت العشائر رمزيتها وسيطرتها على أبنائها"، أضاف: لم تفقد العشائر والعائلات السيطرة الكاملة لكن قلَ نفوذها وتأثيرها على الشباب.
وعن دور الاحتلال في تصاعد الجرائم، تابع: الاحتلال مشكلة موجودة لكن قلة سيطرة السلطة وردع المجرمين هو سبب رئيسي في هذه الحالة من العنف الداخلي.
وشدد على أن "الرادع الديني" و"القانون" هما عاملان أساسيان في معالجة قضية الجرائم في المجتمع.
عن تعريف "العنف"
المحاضرة في جامعة بيرزيت، رولا أبو دحو، ترى أن مفهوم "العنف" في الوعي الفلسطيني مرتبط بمقاومة الاحتلال، وتضيف: بعد مرحلة "أوسلو" تعرض مفهوم "العنف" الذي هو مقاومة الاحتلال للتشويه، من خلال محاولة تثبيت مفاهيم "المقاومة السلمية" وغيرها، في كل المجتمعات جرائم مثل القتل والسرقة وغيرها، لكن في فلسطين المحتلة في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية السيئة نعيش نمطاً مختلفاً من الجرائم.
وتؤكد على أن أزمة السياسي - الاقتصادي تنعكس على الواقع الاجتماعي، وتابعت: مفهوم "العنف الداخلي" قد يكون أداة في يد طبقات متنفذة لحرف النظر، عن جرائم فساد أخرى، قبل أيام سمعنا عن شراء لوحة مركبة بمبلغ مليون شاقل، هذه جريمة أخلاقية ووطنية، في ظل أن مئات آلاف الموظفين يعانون من رواتب متدنية وخصومات، حتى الطبقات فوق المتوسطة مثل الأطباء وغيرهم تعاني من رواتب أقل من المطلوب.
في ظل حالة المقاومة التي تعيشها مناطق مختلفة من الضفة المحتلة، نعود لنسمع عن "العنف الداخلي"، في ظل الحاجة للعنف الموجه نحو الاحتلال، تقول أبو دحو، وتوضح: هذا لا يعني عدم وجود جرائم اجتماعية، لكن يجب الحديث عن الأسباب السياسية والاقتصادية لها، هذه ظواهر مرفوضة وليست "عنف داخلي"، هذا المفهوم نتحدث عنه تحديداً عندما تندلع حرب داخلية تمنع الفلسطيني من محاربة الاحتلال، وهذا غير موجود حالياً في الضفة، بل أحداث لها أسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية.
وتابعت: الاعتداء على الطلاب والطالبات في الخليل، ليس عنفاً داخلياً، بل اعتداء على مجموعة عبَرت سياسياً عن رأيها، والحل ليس عشائرياً في هذه الحالة، إن كان لأهالي الخليل كلمة فيجب أن تكون للسلطة التي شرعنت هذا الاعتداء، نحن نعيش محاولة لحرف النظر عن مجتمع يعيش تحت الاحتلال نحو التطبيع مع مفاهيم لا تعبَر عن هذا الواقع.
"الجوع الكافر"
وعن مركزية العامل الاقتصادي في حالة الجرائم، تقول: من يرعى الغلاء الفاحش الذي نراه في مجتمعنا، في ظل الفقر الذي تعانيه فئات من المجتمع، هي السلطة، الملايين التي تصل إلى خزينتها من العائدات الضريبية وتعلن أنها لا تستيطع توفير رواتب الموظفين، الذين يطالبون الحكومة براتب شهرين ونصف تقريباً، نحن نعيش جريمة اقتصادية، في ظل السماح لشركات تحقق أرباحاً ضخمة، في ظل تدهور أوضاع فئات مختلفة خاصة الموظفين.
وتصف أبو دحو هذا الواقع بأنه "بذخ وقح"، وتضيف: أين تذهب أموال الشركات؟ النشاطات التي تنفذها تحت شعار "المسؤولية الاجتماعية"، غير حقيقي، ولا يعبَر عن مداخليها السنوية، التي يعلن عنها كل عام، هذا الفساد الاقتصادي هو من يجب محاسبته، عندما تجوع الناس من حقها أن تبحث عن الخبز لأولادها، وعلى رأي الشاعر مظفر النواب "الجوع أبو الكفار"، لو كانت مستويات معظم الناس متقاربة لكان لنا رأي آخر، لكن في الواقع تعاني فئات من المجتمع فقراً وحاجة، بينما تغنى فئة أخرى دون معرفة الأسباب.
كيف نفهم الجيل الشاب؟
أبو دحو محاضرة جامعية منذ سنوات وأدركت عدة أجيال، وترى أن هذا الجيل يخط تجربته النضالية الخاصة به، في ظل الظروف المعقدة التي يعيشها، وهي "أصعب برأيها من أجيال سابقة كانت الظروف تسمح لها بالنضال أكثر من هذه السنوات، حسب وصفها، وتضيف: من يقود النضال الحالي هو هذا الجيل، ويشارك في حراكات اقتصادية واجتماعية وسياسية، في المقابل طبقة شابة أخرى تعيش أجواء على مواقع التواصل الاجتماعي تتعلق بالرفاهية وغيرها، وهذا طبيعي، ولا يجوز أن نحكم على كل هذا الجيل بــ"الفشل والسلبية".
وتابعت: كمحاضرة جامعية منذ أكثر من 20 عاماً، عايشت مختلف الأجيال، وأرى أن الحركة الطلابية ما زالت قوية وخاضت في جامعة بيرزيت إضرابات ذات طابع سياسي ضد الاعتقال السياسي وغيرها من القضايا، ولهم فعالية ترتفع أو تنخفض حسب المرحلة، في الشارع الفلسطيني.
واعتبرت أن الجيال الشاب الحالي، في المجتمع الفلسطيني، يتعرض لعملية "تحطيم وقمع" من خلال الاعتقالات السياسية وفي سجون الاحتلال، من خلال سياسة "الباب الدوار"، وأضافت: الجيل الحالي يملك قدرة تحمل أكبر من جيلنا، في زمان شبابنا كانت الظروف مهيأة أكثر للنضال، لكن الشباب الفلسطيني اليوم يواجه ظروفاً معقدة على كل المستويات.
المجتمع الفلسطيني... بين زمنين
وعن دور العشائر والفراغ في المجتمع الفلسطيني في ظل "تراجع سلطة القانون" والحالة التنظيمية والسياسية، ترى أبو دحو أن "المجتمع الفلسطيني كان يحل قضاياه في السابق من خلال القوى التنظيمية للحركة الوطنية الفلسطينية".
وأشارت إلى أن "البعد الوطني" كان حاضراً بقوة في آليات حل المشاكل، وتعريف "المشكلة"، وقالت: قيم حسن الجوار والتضامن في ظل وجود حركة وطنية قوية، كانت تساهم في إدارة الحياة الاجتماعية، ولدينا تجربة الانتفاضة الأولى التي ساهمت فيها التنظيمات والقيادة الوطنية الموحدة في معالجة الإشكاليات.
وتابعت: السلطة الآن مرتبطة بالعشيرة، في عدة قضايا نرى أن الأجهزة التنفيذية تنتظر قرار العشائر، في ظل ضعف القانون وعدم قدرته على إنفاذ كل القرارت في مناطق الضفة المقسمة إلى "أ، ب، ج"، والناس وصلت إلى مرحلة فقدان الأمل، وتريد التوجه لحل يحقق لها الأمان ويحصل لها حقوقها، من هنا التوجه نحو إطار العشيرة وغيرها.
وأردفت: لكن دور العشيرة في المرحلة الحالية تغيَر عن السابق، لذلك يجب وجه علامات استفهام على الحلول العشائرية، هل تحقق الحل؟ أم تؤجج الإشكاليات؟ وهل أحكامها عادلة؟ وهل تحقق تحسناً في الواقع الاجتماعي وتمنع زيادة الجرائم؟.
أي دور للنخب؟
يرى بعض المختصون أن "النخب" التي تملك الوعي السياسي والنضالي ابتعدت بصورة عامة، عن الانخراط في قضايا المجتمع بصورة عملية، تقول أبو دحو: الآن لدينا نخب من خلفيات مختلفة، بعضها مرتبط بالسلطة، وجزء آخر فقد الأمل ودخل في إحباط نتيجة الظروف التي طرأت على المجتمع، لدينا إشكاليات جدية في تعريف النخبة وكيفية التعاطي معها.
وتابعت: لدينا اليوم نخب جديدة بعضها مرتبط بالسلطة على كل المستويات لذلك هي لا تقوم بدورها المطلوب منها.