غزة تاريخ وجغرافيا. طوبوغرافيا وديموغرافيا. غزة هي الناس البسطاء. المقاومون بالفطرة. قاهرة المحتلين وما أكثرهم. موقعها يجعل منها حكاية مفتوحة لا تنطوي أبداً.
ثمة مقولة استراتيجية رائجة لنابوليون بونابرت عن قطاع غزة، فقد وصفه بمدخل أفريقيا وبوابة آسيا، فهذا القطاع الذي عبر منه الفراعنة المصريون مرات عدة إلى بلاد الشام، من بوابته أيضا عبر الهكسوس والأشوريون والفرس واليونان والرومان والعرب والعثمانيون إلى مصر، وإذ سقطت طموحات بونابرت على أبواب مدينة عكا عام 1801 بعدما اجتاز غزة وساحلها، فإن حملة ابراهيم باشا المصري المدعومة من الفرنسيين عام 1831 اخترقت بوابة غزة بإتجاه الديار الشامية والأناضول، ومثلها فعلت الجيوش الإنكليزية في الحرب العالمية الأولى. من ضرورات القول بداية، إن مصطلح “قطاع غزة” حديث التداول والشيوع، وتعود جذور إطلاقه إلى عام 1949، إثر “اتفاقية رودس” التي أنتجت الهدنة المصرية ـ الإسرائيلية بعد حرب العام 1948، ونصت على “عدم اللجوء إلى القوة العسكرية لتسوية القضية الفلسطينية، وإقامة هدنة بين قوات الفريقين خطوة لا بد منها في سبيل تصفية النزاع المسلح وإعادة السلم إلى فلسطين”، مثلما جاء في الترجمة العربية للنص الإنكليزي كما نشرته “مؤسسة الدراسات الفلسطينية”، وذلك يعني بحسب هارون هاشم رشيد في كتاب “قصة مدينة غزة” الصادر “عن دائرة الثقافة بمنظمة التحرير الفلسطينية” أن هذه المنطقة التي سميت في ما بعد قطاع غزة، “لا تعني حدودا سياسية او إقليمية، وإنما تعني المنطقة الفلسطينية التي تولت إدارتها الحكومة المصرية”. لكن تلك الدلالة العسكرية لمصطلح “القطاع” والتي شاعت بعد العام 1949، تختصر كل تاريخه إجمالا، قبل الهدنة وبعدها، فحين تكون غزة نقطة الفصل والوصل بين آسيا وأفريقيا، فذلك يعني أن موقعها يفرض عليها أن تكون قلعة آخر الحدود أو قلعة أول الحدود، فقد “حصل تخريبها مرارا بسبب الحروب التي كانت تتناوبها والأمم التي كانت تتقلب عليها، بل كانت بسبب كونها همزة الوصل بين مصر والشام مسرحا كبيرا لحروب متوالية”، كما جاء في “تحفة الأعزة في تاريخ غزة”، للشيخ عثمان الطباع (1882ـ 1950)، أحد أبرز المؤرخين الفلسطينيين الذين كتبوا عن غزة في النصف الأول من القرن الماضي. ماذا تقول الكتب والأسفار عن غزة؟ في “معجم البلدان” لياقوت الحموي، أن “غزة مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، غزة كانت إمرأة صور الذي بنى صور مدينة الساحل قريبة من البحر، والشام حدها من الفرات إلى العريش المتاخم للديار المصرية”. ويقول إبن خلدون في “المقدمة” إن “بلد العريش هو آخر الديار المصرية، وفي شرق سواحل الشام غزة ثم عسقلان وبانحراف يسير عنها إلى الشمال بلدة قيسارية ثم عكاء ثم صور ثم صيداء”، وعلى هذا “النحو الشامي” يذهب إبن بطوطة فيقول “ثم سرنا حتى وصلنا إلى مدينة غزة، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر، متسعة الأقطار كثيرة العمارة، حسنة الأسواق، بها المساجد الكثيرة والأسوار عليها”.
سبق القول إن ياقوت الحموي، أشار إلى أن “غزة كانت إمرأة صور”، وهذا ما يفتح باب البحث عن معنى الإسم، وفي ذلك يختلف المتأولون والمجتهدون، فقائمقام غزة عارف العارف (1891ـ1973) المقدسي المولد وصاحب جريدة “سوريا الجنوبية”، يورد في كتابه “تاريخ غزة” احتمالات عدة لمعنى الإسم، فقد يكون من العزة والمنعة والشدة، وقد يكون من الخزينة والثروة، مما يحتمل عدم الأصل السامي للاسم، وفيما يستصوب العارف الرأي الأول، فإن المؤرخ الفلسطيني الموسوعي مصطفى مراد الدباغ (1898 ـ 1989) صاحب موسوعة “بلادنا فلسطين”، يرجح جريان المعنى بين القوي والمخزن والكنز “وما يمكن ادخاره”، وهذا رأي يستند إلى ما يقوله اللبناني أنيس فريحة في كتابه “أسماء المدن والقرى اللبنانية وتفسير معانيها”، مثلما يظهر في حاشية الجزء الخاص من موسوعة الدباغ والمعنون بـ”الديار الغزية”. بعيدا عن تعدد المعنى للإسم الواحد، واقترابا من مفاصل ومنعطفات القرن العشرين، تقفز إلى الواجهة لحظة دخول القوات الإنكليزية إلى قطاع غزة في الحرب العالمية الأولى، ففي السابع من تشرين الاول/ نوفمبر 1917، دخل الإنكليز إلى غزة، وغادروها في الخامس عشر من أيار/ مايو 1948، بعدما كانوا انتجوا النكبة المستمرة. ماذا في الوقائع، ماذا في جعبة الأيام؟ يقول مصطفى مراد الدباغ، “اشتركت جميع مدن وقرى وبدو لواء غزة في الجهاد ضد البريطانيين واليهود، ففي ثورة 1929، غادر اليهود الذين كانوا يقيمون في غزة بحراسة الجند ولم يعد منهم أحد بعد ذلك التاريخ”، وفي عام 1936، شارك سكان قطاع غزة في الإضراب التاريخي الذي استمر 173 يوما، وفي عام 1948، وقبيل انسحاب البريطانيين، وقعت معارك عدة بين أهالي القطاع والقوافل الإسرائيلية التي كانت تعمل على تزويد المستوطنات المنتشرة في جنوبي البلاد بالمؤن والعتاد.
وفي سرده للمواجهات التي لم تنقطع بين أهالي غزة وقوات الإحتلال الإسرائيلي، يقول هارون هاشم رشيد “كانت غزة ومنذ اللحظات الأولى للنزوح الفلسطيني بؤرة للتأجج الوطني، فهؤلاء النازحون الذين وفدوا إليها، يحملون في عيونهم وقلوبهم، صور مدنهم وقراهم ومزارعهم ومدارسهم، ظلت تحفزهم على التسلل إليها والعودة إلى مرابعه”، وبعد “غارة 28 شباط/ فبراير 1955 أخذت حركة الفدائيين نقلة نوعية وحاسمة”. وتُظهر الفترة الفاصلة بين أيلول/ سبتمبر 1955 وتشرين الاول/ أكتوبر 1956 تاريخ العدوان الثلاثي على مصر، نشاطا فدائيا ملحوظا من قطاع غزة بإتجاه الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، وقدم الإسرائيليون شكاوى عدة إلى هيئة الإشراف على اتفاقية الهدنة معلنين انهم تعرضوا لمائة وثمانين “اعتداء” بين أوائل كانون الثاني/ يناير 1955 ومطلع آذار/ مارس 1956، وبلغ اتساع العمليات الفدائية مستوى شن فيه حوالي 300 فدائي هجمات منسقة ومباغتة طالت مواقع ومستوطنات اسرائيلية عدة، وذلك بعد استهداف المدفعية الإسرائيلية لإحدى مستشفيات غزة في الخامس عشر من نيسان/ إبريل 1956. في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر من السنة المسبوقة الذكر، احتلت اسرائيل مدينة غزة، ثم خان يونس، وعلى ما يقول حسين أبو النمل في كتابه “قطاع غزة 1948 ـ 1967” ان وقائع حرب 1956 “تؤكد أن احتلال قطاع غزة كان هدفا عسكريا اسرائيليا قائما بحد ذاته، وللخلاص من دوره كلسان ممتد إلى داخل الأرض المحتلة، يصلح منطلقا لهجوم مصري مسلح ضد اسرائيل، إضافة إلى دوره كقاعدة آمنة لأعمال الفدائيين الموجهة ضدها”. على العموم، فإن نشاط الفدائيين في قطاع غزة، والذي استمر لأكثر من سنة بقليل، أظهر قابلية وحماسة الغزاويين للقتال والعمل المسلح، غير أن هذا النشاط احتوته ترتيبات وتسويات ما بعد العدوان الثلاثي، وليدخل قطاع غزة في طور جديد من المواجهة مع اسرائيل، خصوصا بعد انسحابها منه عام 1957 بضغط من القوتين الدوليتين الأكبر آنذاك: الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. بعد احتلاله عقب حرب الخامس من حزيران/ يونيو 1967، عرف قطاع غزة نمطا جديدا من العمل الفدائي، ففي السنوات الثلاث التي أعقبت “الإحتلال الحزيراني”، كان الفدائيون يسيطرون على القطاع في الليل، والإسرائيليون يستعيدونه في النهار، وهو أمر لاحظته صحيفة “صاندي تايمز” البريطانية في أحد أعدادها الصادر في عام 1969، فكتبت تحقيقا بعنوان “غزة في الليل للفدائيين”، وأما عام 1970 فقد تم وصفه بـ”عام القنابل”. وبالإستناد إلى دراسة بعنوان “المقاومة المسلحة في قطاع غزة 1967 ـ1974) لزكريا محمد العثامنة”، أن المقاومة المسلحة في قطاع غزة نمت بإضطراد، وبشكل فاقت نظيراتها في بقية المناطق العربية المحتلة، فمنذ بداية الإحتلال الإسرائيلي في حزيران/ يونيو 1967 وحتى منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه، بلغ مجموع ما وقع في الأراضي المحتلة كافة، 971 اشتباكا عسكريا، كان نصيب قطاع غزة وحده 730 اشتباكا. في عام 1987، اندلعت الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، أو “انتفاضة الحجارة” من مخيم جباليا في قطاع غزة، صحيح أن شرارة الإنتفاضة أشعلها سائق شاحنة اسرائيلية دهس عمالا فلسطينيين فقتل أربعة منهم، إلا أن قطاع غزة انتفض عن بكرة أبيه تضامنا مع جباليا، وسرعان ما توسعت الدائرة لتشمل الأنحاء الفلسطينية كلها، وهذه الإنتفاضة أفضت إلى تجديد العمل النضالي الفلسطيني بعد منعطف الخروج من لبنان سنة 1982، وأما “انتفاضة الأقصى” في عام 2000، فهي تنطوي على مشاهد شبيهة بما يجري من وقائع ويوميات في هذه الآونة، فقد بدأت مقدسية بسبب زيارة أرييل شارون للحرم القدس ي، ثم شهدت تطورا في أدوات وأشكال المواجهات العنيفة، بما فيها استخدام المقاومة الفلسطينية للصواريخ، والتي أدت إلى انسحاب اسرائيل من قطاع غزة في عام 2005. شنت إسرائيل ثلاث حروب على قطاع غزة بعد الإنسحاب منه، الأولى في كانون الأول/ ديسمبر 2008، وأسمتها “الرصاص المصبوب” والثانية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 بعنوان “عمود السحاب”، وفي تموز/ يوليو 2014، كانت حرب “الجرف الصامد” على غزة. يتحدث بنيامين نتنياهو في كتابه “مكان تحت الشمس” عن حوار دار بينه وبين رجل فلسطيني عجوز من مخيم جباليا: نتنياهو: من أين أنت؟ الفلسطيني: من المجدل (مستوطنة أشكلون) نتنياهو: هل ستعود إلى المجدل؟ الفلسطيني: إن شاء الله يحل السلام ونعود إلى المجدل نتنياهو: إنشاء الله يحل السلام وأنت تزور المجدل ونحن نزور جباليا الفلسطيني: نحن نعود إلى المجدل وأنتم تعودون إلى بولندا.