قبل عشر سنوات كانت آخر مرةٍ زرتُ فيها أبي في سجن النقب، بعد أن حصلتُ على تصريحٍ لمرة واحدة بعد محاولاتٍ طويلة كلها عادت بالرفض، بحجة أنني " مرفوضة أمنيًا" وهي الحُجةُ التي رافقتني منذ أن أتممتُ السادسة عشر من عمري وحصلتُ على الهوية.
واليوم نعود للزيارة ورحلتها الطويلة يا شذى، لكن هذه المرة أنتِ التي نزورها، بعد أن كنتِ الصغيرة التي ترافقنا في الزيارات الكثيرة التي زرناها للسجون، نزوركِ نَحنُ اليوم، وقد حصلنا على تصريحٍ لذلك، مكتوبٌ عليه "رغم الحظر الأمني".
الساعة الـ 6:30 صباحًا...
وصلنا عند الباص الذي سيأخذنا للحاجز، ماما وشهد وأنا، لم يتغير مكانهُ عن آخرٍ مرةٍ ذهبتُ فيها للزيارة، ركبنا وأخذنا نتعرفُ على أهالي الأسيرات وأهالي الأسرى الأشبال، عَرف الجميعُ أنها المرةُ الأولى التي نزوركِ فيها، فقد اعتادوا أن يعرفَ بعضهم بعضًا.
الساعة الـ 7:55 صباحًا..
وصلنا حاجز نعلين، أو يا شذى من الأصح أن نقول السجن المصغر، حصلنا على تذاكر الزيارة من موظف الصليب الأحمر، دخلنا وانتظرنا في طوابير طويلة، أغلقت كل الأبواب فجأة، وأصبحنا وكأنما في ساحةٍ صغيرة، فوقنا سياج وممرٌ يسيرُ فيه جنديُ يصوبُ بندقيتهُ نحونا، وصوتٌ مجندةٍ بلكنتها المزعجة، "النسوان على اليمين والزلام على اليسار"..
تفتيشٌ دقيق لما نحمل من حقائب، فحصٌ للهويات والهواتف، ومن ثم فحصٌ جديد للتصاريح وتذاكر الزيارة وإن ما كان مسموحًا لنا الدخول أم لا، إجراءاتُ المطاراتِ على كثرتها إلا أنها أقل تعقيدًا ووقتًا من هذا الحاجز!
الساعة الـ 9:06 صباحًا..
انطلقت الحافلة من أمام الحاجز، وسرنا في طرق البلاد التي نعرفها والتي لا نعرفها، صمتٌ طويل وعيونٌ تجول يمينًا ويسارًا، حتى وصلنا أعلى الكرمل، حيثُ سجن الدامون، حيثِ أنتِ يا شذى.
الساعة الـ 10:43..
في ساحة انتظارٍ مهترئةٍ جلس الأهالي ينتظرون، بعضهم يرتبُ أغراضًا أحضرها وبعضهم يسلم على آخر، قالوا لنا إن هناك فوجان سيزوران، أهالي الأشبال أولًا وأهالي الأسيرات ثانيًا، وبعد أن أخذوا الأسماء، سرت وأمي وشهد خارجًا، نحاولُ أن نرى في الأفقِ شيئًا من البحر، قطفت شهد بعضًا من "الحنون" تمنينا لو نستطيعُ أن ندخلهُ لكِ، لكنهُ المستحيل عند سجانيكِ اللئام.
ساعاتُ الانتظار كانت ثقيلةً جدًا يا شذى، رافقنا فيها الصمتُ أكثر من الكلام، لربما كنّا نتخيلُ كيف سنراكِ وماذا سنخبركِ أولًا، أو أنه سيطر على تفكيرنا شيءٌ واحد.. كيف لشذى الجميلة أن تكون في هذا المكان الموحش!
الساعة الـ2:20
فتحت البوابة، ونادى السجان بأن أدخلوا، دخلنا وأخذ الأهالي يتوزعون على نافذتين إحداهما لإدخال "الكنتينا" والأخرى لإدخال الكتب والصور والملابس، لندخل بعدها لطابور التفتيش من جديد، ونخرج لمكان الزيارة.
غرفة مستطيلة يقسمها نصفين زجاج عازلٌ للصوت، مقسمة لتتسع لـ15 أسيرة، كلٌ يحجزُ مكانًا وينتظر..
لهذه الغرفة نوافذ تطل على ممرٍ طويل، أخبرنا الأهالي بأننا نرى الأسيرات حين يأتون، وقفنا يا شذى ننتظركِ على النافذة، وقبل أن نرى شيئًا، سمعنا صوتَ الأصفاد والأبواب، يفتحُ القفلُ والباب ومن ثم تُسمع الأصفاد حين تتحركُ الأسيرات، كل أسيرتين معًا.
حتى اقترب الصوت عند الباب الأخير، وأتيتِ يا شذى، باسمةً كما أنتِ، ننادي عليكِ وتحاولين أن تلوحي لنا بيدكِ رغم أنها مكبلة، تبتسمين لنا بسمتكِ التي نعرفها، وما أن فك السجان يديكِ حتى أتيتِ تركضين نحونا، سامحينا لأن دموعنا خانتنا، فوالله ما هي إلا دموع الشوق لكِ يا شذى.
بدأت الـ45 دقيقة..
-هذه مدة الزيارة 45 دقيقة، تُفتحُ فيها سماعاتُ الحديث بين الأسيرات وأهلهن-
-كيف حالك يا شذى؟
- كيف حالكم إنتو؟
-إنتِ منيحة؟
- إنتو مناح؟
وكثيرٌ من الأسئلةِ التي رددتِ عليها بسؤالٍ يا شذى، وكأنما نحنُ الذين في السجن لا أنت،
لا نعرفُ كيف مرت هذه الدقائق بلمح البصر، فما أنهينا الحديث ولا أنتهت الأسئلة، لكنني سأظلُ أذكرُ نظراتكِ الطويلة لأمي يا شذى وهي تتحدثُ معكِ، سأظلُ أذكر عيونكِ ولمعتها وأنتِ تسمعين أخبارنا، وكيف كنت تراقبين تفاصيل وجوهنا ونحنٌ نراقبٌ تفاصيل وجهك.
سأظلُ أذكرُ كيف ضحكتِ، وكيف حركتِ يديكِ وكيف تحدثتي وكيف تحركتي وكيف وصفتي حياتكِ داخل السجن، سأظلُ أذكر سلام اليدين عبر الزجاج وقُبل الهواء كما لو كنّا صغارًا.
سأظلُ أذكر كيف أغلق الباب، وأنتِ تلوحين لنا من خلف الزجاج.
لم يعد الوقت مهمًا..!
كانت زيارةً ثقيلة يا شذى، تركناكِ في السجن البارد القديم وعدنا، ندعو الله أن تكوني بيننا قريبًا وأن تنقضي أيامُ البعد ولا تعود، وأن تغدو هذه الزيارة ذكرى، كغيرها من الزيارات الثقيلة التي عشناها.
وإلى أن يأذنَ الله بالفرج القريب، نستودعكِ الله يا شذى.. هو الحافظ والرحيم بقلوبنا وقلبكِ يا حبةَ العين..