عن العروس التي فقدت عريسها... الآن سوفَ تتذكَّرهُ كلَّما لمحت علبة مكياجها الذابلة، سوفَ تقشعرُّ ذكرياتُها كلما لمست ثيابها الجديدة التي حضرتها في حقيبة العرس، ولم تلبسها، ستسمعها وهيَ تتنهدُ جبالًا من الحزن فلا تحركُ ساكنًا، ستصفعُها ألوانُها بينما روحها ترتدي الأسود وتمارسُ الحدادَ بعيدًا عن العالم، ستتذكرُ ابتسامته كلما سمعت إحدى أغاني عرسها -قدرًا- في سيارة عابرة، ستطعنُها كلمات الحب فيها، وستهوي على رأسها كلُّ قصور أحلامها التي دخلتها عروسًا وخرجت منها مفجوعةً بفقدها، وستبكي كلما أمسكت كرتَ عرسها وتشاهدُ كيفَ تحول شكلُ رأس القلب المحاط باسمه إلى شكلِ تابوت، وكيفَ تحولت حروف دعوة العرسِ إلى عشرات الرجال الذين يحملونهُ ويركضونَ بهِ في الشوارع لمثواهُ الأخير ستتذكر، وتبكي وحدها على مأساتها الكبيرة.
عن الأم التي فقدت طفلها... ستصنعُ لهُ صباحًا سندويشا من الزعتر، ستلفهُ وهيَ سارحة سيكونُ مالحًا لكثرة ما بكت وهيَ تعده، ولكنهُ لن يتناوله ستتذكرُ وهيَ تضعهُ في حقيبته أنه لن يأكلَ أي شيءٍ تصنعهُ بعد اليوم، ولن يتذمر من الطعام الذي لا يحبه، ستتلوى كلما فتحت باب المنزل ورأت أشلاءه تلتهمُ قلبها، وستصرخُ عليهم: ألم أقل لكم أن تنظفوا عتبة البيت من الأشلاء!
ستصفرُّ وجوههم ويصمتون وحدها من ترى الأشلاء كلَّ يوم.
حينَ تنتهي أيام العزاء الشكلية ويغادر الجميع ستعدُّ كأس دمعها وتفرشُ ثيابه وتجلسُ فوقَ سريره وتقيم عزاءها، في الخلفية صوته وضحكاتهُ ومشاكساتهُ وعناده، وأمامَها شبحُ الفقد، واللوعة تتشكل بكل أشكال الحياة الممكنة، وستصادقها من الآن فصاعدًا حتى تبيضَ صفحات الذاكرة ويغتسلَ القلب بماءِ الفجيعة، وحتَّى تنتهي كل الساعات والأزمنة، ستظلُّ تتذكر.
عن الطفلة التي فقدت أباها وأمها... سيمرُّ عيدُ ميلادِها، كانَ من المفترض أن تطفئَ الشموع وتتمنى أمنية، ولكنها من ذلك اليوم تحاول إطفاء جسد والدها ووالدتها وتعجزُ عن ذلك، وكل المطرِ في الكون سيعجزُ معها عن ذلك، وسيأتي الشتاء ولن تجد أي حضنٍ دافئٍ تأوي إليهِ غزالةُ قلبها المذعورة، ستنجزُ كل الأشياء المهمة في حياتها وفي كل مرة ستركض لصورتهما على الحائط ليقولا لها: مبارك يا حبيبتي، ستتظاهر بالفرح، وتبكي وهيَ تلوحُ بشهاداتها وبينما الناس يرشون عليها رذاذ النجاح الأبيض ستشمُّ رائحة القصف الذي انتشلَ والديها بوقاحة.
ستكبرُ حقول النعناعِ المحترقِ في عيونها وتمرُّ أعيادُ ميلادِها وتقول: بعضُ المناسباتِ السعيدة أشدُّ حزنًا من الحزنِ نفسه.
وعنَّا، سنكتبُ عن القصص التي لن تصبحَ مشاهد في الأفلام العربية، ولا سيناريوهات في هوليود، ولن تصلحَ لتكونَ أغانٍ للذاكرة، فالكتابة عن الحب وحقوق الحيوانات ومعاناة البشر في كل الأزمنة أهم بكثير من معاناة الناس في غزة، قصصنا ليست قصصًا عابرة، قصصنا أرواح تطوفُ حولنا، تدورُ بلا ملل كالصغار وهم يغنون، وكالريحِ حين تهب، وكالأراجيح التي لا تتوقف نصطدمُ بها كلَّ يوم ونتساءل من الذي أعطى الحق للطائرات أن تفرق العشاق، وتخطفَ الأطفال من أحضانِ أمهاتهم، وتخطف الآباء من قلوب صغارِهم، سنتذكر ونتابعُ الحياة/الموت بشكلٍ أو بآخر.