لم يكن اتفاق "أوسلو" المشؤوم سوى تعبير عن حالة هزيمة فلسطينية وعربية واختلال كبير في ميزان القوى، ونتاج تسرّع البعض في الساحة الفلسطينية لإستثمار سياسي متسرع أيضاً لمنجزات إنتفاضة الحجر الفلسطيني 1987- 1988، فأوسلو فكك المشروع والقضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، وقسّم الأرض والشعب جغرافياً ومجتمعياً ووطنياً، واجّل قضايا القدس والأسرى واللاجئين التي ندفع ثمنها حتى الآن.
فالقدس تتعرّض لعملية تهويد وأسرلة غير مسبوقتين، حيث سياسة التطهير العرقي والتهجير القسري بحق المقدسيين مستمرة ومتواصلة،ونشهد بعد قرار المتصهين ترامب وإدارته بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس والإعتراف بالقدس عاصمة لدولة الإحتلال "تغولاً" غير مسبوق على وجودنا وحقوق شعبنا في المدينة، والأسرى من الداخل الفلسطيني - 48 - ومعهم أسرى القدس الذين تخلى عنهم المفاوض الفلسطيني طواعية، العشرات منهم دخلوا موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية، فهل يعقل أن يبقى أسير في السجن مدة تجاوزت الثلاثين عاماً؟
ورغم كل مساوئ أوسلو ومثالبه الاحتلال قام بسحقه وتدميره تحت جنازير دباباته عندما اقتحم الضفة الغربية في عام 2002 وحاصر الرئيس الراحل ياسر عرفات في المقاطعة في رام الله حتى الموت، وأنهى التقسيم الجغرافي لمناطق (الف وباء وجيم)، بحيث يستطيع جيش الاحتلال استباحتها كاملة دون أية فروقات للتصنيفات بينها، أي اخضعها جميعها للسيطرة "الإسرائيلية" الأمنية المباشرة، ورغم كل ذلك استمر البعض الفلسطيني يعاند الحقائق على قاعدة المأثور الشعبي "عنزة ولو طارت" أن اتفاق أوسلو جيد للشعب الفلسطيني، ولا يمكن ابداع أكثر مما كان، هذا الإتفاق الذي وصفه ثعلب السياسة الإسرائيلية شمعون بيرس بأنه النصر الثاني لدولة الاحتلال بعد النكبة التي حلت بشعبنا الفلسطيني عام 1948.
بعد 26 عاماً على مرور أوسلو، وجدنا بأن عملية نهب وتقطيع أوصال أرضنا الفلسطينية مستمرة ومتواصلة، والإحتلال يكثف ويزيد من وتائر استيطانه في القدس والضفة الغربية بشكل جنوني، وتتصاعد الدعوات من قبل الكثير من "الأحزاب الإسرائيلية" اليمنية المتطرفة المؤتلفة في "الحكومة الإسرائيلية" الحالية والمتصارعة على السلطة والفوز في الإنتخابات الإسرائيلية التي ستجري بعد أقل من أسبوع، أيهما س"يوغل" في الدم الفلسطيني أكثر، فنتنياهو زعيم الليكود يعلن انه سيضم اجزاء من الضفة الغربية والأغوار، وشمال البحر الميت، وقال بانه لن يخلي أي مستوطنة معزولة وغير معزولة، ولكسب أصوات المستوطنين المتطرفين اقتحم الخليل والحرم الإبراهيمي، قائلاً إنه عاد الى أرض الأجداد وللتوحد مع الذاكرة وللتعبير عن "النصر"، وبقية المركبات السياسية الصهيونية الأخرى، أغلبها يتفق مع نتنياهو في الإستراتيجية، لا دولة فلسطينية غربي النهر ومع السيطرة على الأغوار وفرض السيادة الإسرائيلية على أجزاء من الضفة الغربية.
بالمختصر لا أحد يوهم شعبنا بأن سقوط نتنياهو سيجلب "اللبن" و"العسل" لشعبنا الفلسطيني، هذا القول سمعناه عندما تم حصار الرئيس الشهيد أبو عمار في المقاطعة برام الله، أنه اذا تخلصتم من أبو عمار، فستكون فلسطين سنغافورة.
رغم حجم الكارثة التي حلت بنا كشعب فلسطيني من أوسلو وما نتج عنه من إفرازات سلطة منزوعة الدسم، لا سيطرة لها ليس على الحدود والمعابر والجو والبحر فقط، بل حتى على مقر إقامتها، لا تستطيع الحركة والتنقل من قمة هرمها السياسي حتى أصغر رجل شرطة فيها بدون إذن وتصريح من الإحتلال، والحال في غزة ليس أفضل كثيراً، وإن كان هناك سيطرة محدودة للسلطة، إلا أن الاحتلال أيضاً يتحكم بكل مخرجات ومدخلات حياتنا.
رغم كل هذا التوصيف استمرينا في التجريب والمقامرة بحقوقنا وخوض المفاوضات العبثية والماراثونية لمدة ستة وعشرين عاماً، حيث جربنا المفاوضات بكل أشكالها مفاوضات مباشرة وغير مباشرة، علنية وسرية، عن قرب وعن بعد، حتى ان البعض عندنا ألّف كتباً في المفاوضات، كعلم من علوم السياسة وساحة من ساحات الإشتباك السياسي، ولتصبح الحياة مفاوضات، ولكن كل ذلك لم يقربنا من حقوقنا المشروعة بوصة واحدة، بل أصبح مشروعنا الوطني يدمر، واوضاعنا الداخلية التي أضافت الى حالة ضعفنا ضعفاً جديداً، حيث حدث الإنقسام الفلسطيني في تموز 2007، لكي ننشطر بالإضافة للإنشطار الجغرافي، مؤسساتياً وجغرافياً، ودخلنا في حروب مناكفات وتحريض داخلي مقيت بين طرفي الإنقسام (فتح وحماس)، إستعملت فيه كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، لتصل الأمور حد التخوين والتفريط والتكفير والتشكيك والإعتقالات السياسية المتبادلة، وتغليب للمصالح الفئوية والحزبية على المصالح العليا للشعب الفلسطيني، وإقتتال على سلطة منزوعة الدسم، وعلى رواتب ووظائف، ولم تنجح كل المبادرات واللقاءات والإتفاقيات التي رعتها دول عربية وقوى فلسطينية وحتى جرت تدخلات دولية وإقليمية في هذا الشأن في وأد هذا الإنقسام المدمر، بل وجدنا بان قوى وفئات نمت على هامش الإنقسام المدمر، أصبحت تحكمها مصالحها وإرتباطاتها ومحاورها وإمتداداتها العربية والإقليمية، معينة بإستمرار الإنقسام وحالة الضعف الفلسطيني، خدمة لمصالحها ولأجندات ومشاريع مشبوهة. ولكي يصبح الإنقسام بنتائجه وتبعاته كارثة جديدة على شعبنا ككارثة أوسلو.
في الذكرى السادسة والعشرين لإتفاقية أوسلو، والتي بفعل عوامل ضعفنا الذاتية وإنهيار الحالة العربية ودخولها في همومها القطرية وحروب التدمير الذاتي والحروب المذهبية والطائفية، وتعطل الإرادة الدولية المشتبكة أقطابها الرئيسية روسيا وأمريكا ومروحة تحالفاتها الدولية والإقليمية والعربية من أوكرانيا وحتى اليمن، وتبدل الأولويات وتراجع الإهتمام بقضيتنا الفلسطينية دولياً وعربياً، لم ننجح في رسم استراتيجية فلسطينية موحدة، استراتيجية تنهي الإنقسام وتستعيد وحدتنا الوطنية، لكي نتمكن من الصمود والدفاع عن وجودنا وحقوقنا وثوابتنا وقضيتنا.
ولذلك نقول ألم يحن الوقت لكي تنضج قياداتنا، وتدرك أن استمرارنا في إدارة الصراع مع المحتل بهذه الطريقة البائسة، وكذلك إدارة اوضاعنا الداخلية بطريقة القيادة الملهمة و"الجهبذية" التي تفكر عن شعبها، تلك الطريقة التي تعبّر عن أننا نستخدم الجماهير في مشاريعنا وصراعاتنا، ولا نشركها لا في القرار ولا القيادة وحتى التقرير في مصيرها وشؤونها، سيدفع بهذه الجماهير نحو المزيد من اليأس والإحباط وفقدان الثقة من هكذا قيادات وهكذا قوى سياسية وحزبية لا يعنيها سوى مصالحها ومكتسباتها وإمتيازاتها..؟
نعم بعد ستة عشرين عاماً على أوسلو المشؤوم نبتعد كثيراً عن تحقيق حقوقنا الوطنية المشروعة، ونزداد ضعفاً على ضعف بفعل إنقسامنا، وتكلس وتنمط وشيخوخة الكثير من قياداتنا، التي كفت عن الإبداع والإنتاج في ميادين القيادة والتجديد والسياسة والثقافة والفكر.
اليوم نحن امام كارثة اخرى غير كوارث النكبة واوسلو والإنقسام،نحن امام خطة تصفوية امريكية يشترك فيها جزء من النظام الرسمي العربي المنهار وقوى إقليمية ودولية تستهدف شطب وتصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، بمرتكزاتها الرئيسية القدس واللاجئين والحدود والهوية والرواية التاريخية، إنها صفقة القرن الأمريكية، والتي سيجري نشر الشق السياسي منها، بعد الإنتخابات الإسرائيلية مباشرة، تلك الصفقة التي توحد شعبنا وقيادتنا وفصائلنا على رفضها، ولكن الرفض لوحدة لا يكفي من اجل "قبرها"، فلا بد من إستعادة الوحدة الوطنية وإنهاء الإنقسام ورسم استراتيجية ورؤيا فلسطينيتين تقومان على الصمود والمقاومة، وبرنامج وطني متفق عليه يقوم على الشراكة في القرار والقيادة ،وكذلك لم يعد مجدي الرهان على ماراثون المفاوضات العبثية، وإستخدام التكتيكات لتحسين شروط العودة للمفاوضات، فهذا لن يقودنا سوى نحو المزيد من الكوارث، وأيضاً لا يجوز استمرار التنكر لمقررات المجلسين الوطني والمركزي، وإطلاق التصريحات والخطب النارية وما يسمى بالخطابات التاريخية، حول تعليق العمل بالإتفاقيات الأمنية والسياسية والإقتصادية مع دولة الإحتلال دون أي ترجمة حقيقية او فعلية على الأرض،لأن من شان ذلك زيادة حالة فقدان الثقة والإحباط ونشر اليأس في أوساط الجماهير، وكذلك أيضا لا يمكن في ظل ما تشهدة المنطقة والإقليم من تطورات، وبروز تحالفات جديدة في المنطقة،وتراجع وإنكفاء المشروع الأمريكي،ان نبقي القرار الفلسطيني تحت عباءة محور عربي ثبت انه جزء من المشروع المستهدف شطب وتصفية قضيتنا،ويعمل على شرعنة وعلنية التطبيع مع دولة الاحتلال، فلا بد من فتح القرار والخيار الفلسطيني،على أوسع فضاء عربي- إسلامي، وبالذات على محور المقاومةن،كضمانة أساسية من اجل إفشال صفقة القرن الأمريكية.
بعد ستة وعشرين عاماً على نكبة اوسلو،آن الآوان كما هو شعار جمعة الغضب الحالية لمسيرات العودة في القطاع، نقول فلنشطب اوسلو من حياتنا وتاريحنا،فتلك حقبة سوداء في هذا التاريخ.