القدس كغيرها من مدن الوطن المحتل فيها من التنوع الحزبي والتنظيمي ما يمثل كافة ألوان الطيف السياسي الفلسطيني، إلا أن كل هذا التنوع لم يستطع أن يفرز لها قيادة وطنية واضحة وفاعلة وقادرة على توجيه دفتها نحو الحفاظ على ما تبقى من هويتها وهوية أهلها الوطنية الفلسطينية العربية. ولست أسرد هذا من باب ذكر سلبيات أو إيجابيات بقدر رغبتي في التوصيف وتحليل الواقع.
لا شك أن غياب قيادة واضحة لمدينة مثل القدس يشكل حالة استثنائية خطرة بالذات في واقع مدينة القدس التي ترزح تحت نير الاحتلال وتعاني من غيابها عن سلم أولويات سلطة رام الله، بل وأولويات كافة الأنظمة العربية كذلك. ولكن وهذا واقع مدينة القدس كانت هذه الحالة مصدر قوة لها ولأهلها من جانب، فهي أعطتهم الفرصة ليخرجوا ويعبروا عن مواقفهم المتقدمة دون تدخل سواء من قيادة تقدس التنسيق الأمني أو تعيش تحت بساطير الاحتلال، أو قيادة ترى بسنوات مقاطعة الاحتلال مضيعة للفرص والوقت وقد حان الوقت لتطبيع العلاقة معه واغتنام كل الفرص، أو حتى من الاحتلال نفسه الذي سعى جاهدًا على ترهيب واعتقال أي شخصية تتميز وتمتلك كارزما قيادة المدينة وأهلها على مدى عقود من الزمن.
لقد عبر أهل مدينة القدس عن مواقفهم الرافضة لكل أشكال التخاذل والخذلان في صلواتهم على شوارع القدس حتى قبل حادثة البوابات وسمعوا لخطب الجمعة عند حواجز الاحتلال حينما منعهم الاحتلال من الوصول إلى مسجدهم والصلاة فيه وكانت وقفتهم الشهيرة عندما أراد الاحتلال أن يفرض عليهم إرادته بنصب بوابات إلكترونية على مداخل مسجدهم فكانت وقفة البوابات والاعتصام أمام بوابات المسجد الأقصى حتى تراجع الاحتلال، وها نحن نراهم في موضوع مصلى باب الرحمة ورفضهم تدخل الاحتلال بشؤون المسجد الأقصى أو أي جزء منه وكذا مصلى باب الرحمة.
في خضم هذا الواقع وهذه الأحداث رأينا الاحتلال وسلطة رام الله ومن ورائهم يتسابقون لإبراز قيادة لمدينة القدس تنسجم مع سياسة كل منهما وتنضوي تحت سقف طموحات وإمكانيات كل منهما. فسلطات الاحتلال تريد قيادة تحسِّن صورتها وتخفي عنصريتها اتجاه أهل المدينة، قيادة تلجم أهل المدينة وتمنع مواجهتهم معها حتى الانتهاء من تنفيذ ما تبقى من مخططاتها التهويدية في المدينة. تسمح لهذه القيادة بالعمل في هذه المدينة لمصلحة أهلها ولكن ضمن الإطار الذي وضعته سلطات الاحتلال، فلا يجتاز السقف الذي يحافظ على سيطرتها في المدينة ولا يتعارض مع سياساتها التهويدية العنصرية.
قيادة تمثل أهل المدينة في توجهاتهم للحصول على تراخيص احتفالات بمناسبات دينية أو اجتماعية لا تتعارض مع كي الهوية المقدسية ولا تذكر بوجود الاحتلال على أرض هذا الشعب المنهوبة خيراته. أما سلطة رام الله فهي تبحث عن قيادة تدين لها بالولاء ولا تفضح سوءتها وتقصيرها بحق مدينة القدس وأهلها وتقدم لها القرابين بين الحين والآخر. قيادة تظهر أمام كاميرات الإعلام مبرزة شخصيات تبارك لهذه السلطة ممارساتها التفردية والتي ترسخ الشقاق والفرقة بين أبناء الشعب الفلسطيني الواحد. وفي خضم هذا السباق وهذه المنافسة رأينا أهل القدس تجاوزوا كل هذا المراء فكان ضميرهم ووعيهم ووطنيتهم هم قيادتهم الفاعلة التي رسمت لهم طريق صمودهم في حفاظهم على مدينتهم وهويتها.
لم يستطع الاحتلال أن يخدعهم بشخصيات دعمهم أو غض الطرف عنهم وأفسح لهم المجال ليقوموا بنشاطاتهم بينما اعتقل وأرهب ونكل من قام بنفس الأعمال أو معشارها ممن لا يقبل بهم ولا يقبلوا به من أبناء المدينة المقدسة. لم يقبل أهل المدينة أن يمثلهم أشخاص خرجوا مهنئين بحكومة أقل ما قالته التنظيمات الفلسطينية غير المنضوية فيها أنها حكومة ترسخ التفرد والانقسام وأنها ليس في صالح الشعب الفلسطين فضلا عن المشاركة فيها والمساهمة في مزيد من الفرقة والتناحر بين أبناء هذا الشعب الحر الشجاع.
إن القدس تفخر بشبابها المقدام الذي سطر أروع أمثلة الصمود والتحدي لمحتل يملك كل صنوف الأدوات والإمكانات لمحو ذاكرته وصقل هويته وتهجيره من مدينته، هذا الشباب الذي أجبر مسؤولي المدينة وشخصياتها الاعتبارية للوقوف مواقف متقدمة لم تكن في حسبانهم ولم يكونوا حتى جاهزين لها إلا أن الجماهير رفعت من سقف إمكانتهم وجعلتهم يسطروا مواقف سيذكرهم التاريخ عليها وسيشكر لهم الأحفاد صنيعهم.
إن هؤلاء الرجال، من كانوا السد المنيع أمام مخططات الاحتلال التهويدية سواء في المسجد الأقصى أو في القدس بعامتها، ومن سيكونوا السد المنيع الذي سيوقف ما تبقى من مخططات الاحتلال، ومن سيبقوا يذكروا المتخاذلين بتخاذلهم وتقصيرهم هم من يستحقون أن يمثلوا القدس وأهلها.
والله غالب على أمره.