شبكة قدس الإخبارية

أيّ مساءلةٍ نريد؟؟

U201h
أحمد الأشقر

عقب استقالة حكومة الدكتور رامي حمد الله، وعلى الرغم من حالة التهليل والتصفيق التي سادت الفترة السابقة،  لوحظ أنّ قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني اندفعت بشكل غير مسبوق للتعبير عن سخطها عن العديد من الإجراءات والقرارات التي اتخذتها الحكومة المستقيلة على مدى سنوات ولايتها، هذه الآراء التي اندفعت فجأة كنار من فوهة بركان اشتعل بعد ركود لسنوات، بدت وكأنها تؤشر لحالة من عجز الناس أو خوفهم من التعبير عن رأيهم فيما كانت تقوم به الحكومة المستقيلة فترة ولايتها.

السؤال اللاهث اللاهب الذي يجب أن نقدم عليه إجابات واضحة يكمن في ماهية الأسباب الحقيقية التي منعت شرائح واسعة من الناس في فترة ولاية الحكومة المستقيلة وأثناء انعقاد سلطتها الفعلية من التعبير عن آرائهم حتى بشأن أبسط الانتهاكات الفردية أو الممنهجة التي تعرضوا لها، وربما يكون قرار بقانون بشأن الجرائم الإلكترونية والذي كان من أبرز القوانين التي اقترحتها الحكومة المستقيلة إلى جانب عدد مهول من القوانين في قد ساهم في خلق حالة خوف كامنة في صدور الفلسطينيين، مضافا إلى ذلك ما كان يشاع عن حالات اعتقال وتعذيب خارج نطاق القانون من جهة، وقرارات انتقامية للمعارضين لسياسات وقرارات المتنفذين في الحكومة المستقيلة حتى دالت جزء كبير من أبناء حركة فتح العمود الفقري لنظام الحكم السائد، من جهة أخرى.

انتهاكات حقوق الإنسان بمفهومها الشامل التي وقعت فترة ولاية الحكومة المستقيلة تحتاج إلى تحقيق مستقل لإثباتها، رغم أنّ المشاهدات من ناحية مبدئية تكشف عن تدمير شامل لجوانب عديدة من الحقوق الأساسية  للفلسطينيين، من ذلك انتهاك جدّي ومريع  للحق في التنظيم والممارسة النقابية أسفر عن حظر نقابة العاملين بالوظيفة العمومية، وتقييد حق المعلمين في الممارسة النقابية وصلت إلى  نشر قوات أمنية لمنعهم واعتقال قادة الاضراب النقابي، وكذلك تقييد حق الأطباء والمهندسين والقضاة وغيرهم من الممارسة النقابية عبر اقتراح قرارات بقوانين قيدت على نحو صريح حق المواطنين الفلسطينيين في التنظيم النقابي كحق دستوري أقرته كافة المواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها دولة فلسطين وحق الفلسطينيين بالتجمع السلمي التي نالها انتهاك خطير أيضا بقمع التظاهرات السلمية، وكذلك الحق في حرية الرأي والتعبير التي جعلت ادراج المحاكم الفلسطينية مزدحمة بملفات قضائية على خلفية حرية الرأي والتعبير وممارسة العمل الصحفي، منها ما زال قائما، ومنها ما قرر القضاء براءة المتهمين فيه بعد سنوات كقضية الصحفي جهاد بركات المتهم بتصوير موكب رئيس الوزراء المستقيل.

انتهاكات أخرى كانت لافتة مثل تشكيل لجان أمنية استخدمت أساليب خارج نطاق القانون أو عبر استخدامها بشكل تعسفي للنيل من الذين ينتقدون أداء الحكومة أو شخوصها، هناك العديد من الحالات الموثقة، وعلى الرغم من القرار الشكلي الصادر بإغلاق هذه اللجان، والذي شكل اعترافا صريحا بوجودها، إلا أن عمل تلك اللجان بدى تماما أنه لا يزال مستمر حتى اللحظة، التقاعد القسري أيضا الذي استخدم لعقاب الموظفين، والذي نال من مئات الموظفين المدنيين  لاسيما قادة الحراك النقابي، أو المنتقدين للحكومة أو من رأتهم خصومها من الموظفين في الحكومات السابقة، العسكرين أيضا كان لهم نصيب كبير من هذه الإجراءات، كذلك القضاة الذين عارضوا تعديل قانون السلطة القضائية طالتهم إجراءات عقابية  على نحو غير مسبوق من خلال  اقتطاع رواتبهم عبر نظام غير قانوني أصدره مجلس الوزراء عقب الاحتجاجات القضائية، وعقب احتجاجات نقابة المحامين على اعتقال محام من قلب محكمة نابلس، وكذلك إغلاق الباب لتحسين الأمن المعيشي للقضاة وخلق أسس تمييزية للتعامل معهم، رافقه إضعاف متعمد لثقة الناس بالقضاء ومحاولة التدخل في شؤونه، واللافت أنّ كل ذلك كان يتم باستخدام مؤسسات شرعية لازالت قائمة، وأخرى نشأت حديثا، تمّ تسليطها وتوجيهها بطرائق مختلفة لتعقب المنتقدين للحكومة، والنيل منهم، وعقابهم، منها مؤسسات مكلفة بالرقابة والشفافية، وحتى تلك المكلفة بالتحقيق القضائي أو الرقابة على انتهاكات حقوق الإنسان، استخدمت على نحو غير شفاف لتنفيذ أجندات كانت واضحة المرامي والأهداف، يضاف إلى ذلك محاولة التأثير على المنظومة الأمنية واستخدامها بشكل مفرط ضد كل من ينتقد أداء الحكومة أو شخوصها المتنفذين، وهناك حالات موثقة وشهادات حيّة في هذا الإطار.

أمام ما حدث، والذي يبدو ماثلاً للعيان، وفي ظل صدور مئات القرارات بقوانين في فترة الحكومة المستقيلة التي كانت تسوّق من منظور المصلحة العامة وتقدم للسيد الرئيس بهذه الإطار، وقرارات أخرى تسوّق بذريعة المصلحة العامة أيضا مثل قرار مجلس الوزراء الأخير بمنح وزرائها سيارات ومرافقين بعد تقاعدهم، وكذلك زيادة رواتب الوزراء خلافا لحكم القانون، وعبر قنوات كانت تدعم هذه القوانين والقرارات باعتبارها تحقق المصلحة العامة لا المصلحة الفردية، فإنّ ذلك قد أدى إلى نشوء العديد من المراكز القانونية التي أرادوا لها أن تكون بمقاس البعض، استفاد منها وزراء ورؤساء إدارات عامة وموظفون وغيرهم، وفي المقابل، انتهكت بشكل ممنهج حقوق الإنسان لآلاف من الفلسطينيين، كثير منهم لازالت تلك الانتهاكات واقعة بحقهم كموظفين تمّ المساس بحقوقهم المكتسبة لصالح فئات أعطيت أكثر مما تستحق، وليس من السهل جبر تلك الأضرار أو حتى إحصائها دون تحقيق مستقل، ونتائج ملزمة تذهب بآثار ما وقع على الضحايا من انتهاكات، ودون فتح الباب لتقديم شكايات من قبل الضحايا لهيئة قادرة على دراستها والتحقيق بشأنها، ونشر النتائج، وإحالة المخالفين للقضاء.

وفي ظل عدم انعقاد المجلس التشريعي الذي كان تغييبه سببا أساسياً لكل ما آل له الوضع الفلسطيني الداخلي، وباستعراض العديد من التجارب الدولية المقارنة في مجال العدالة الانتقالية، ومنها تجربة هيئة الحقيقة والكرامة في الجمهورية التونسية، وإذا ما صدقت النوايا، وحتى لا يتم تحميل أحد ما بعينه مسؤولية كل ما حدث سواء رئيس الحكومة المستقيلة أو غيره دون تحقيق مستقل، وكي لا تكون تصفية الحسابات مع شخوصها سبباً آخر لانتهاكات حقوقية أخرى قادمة،  فقد بتنا  بحاجة إلى قانون عاجل للعدالة الانتقالية، يسمح بإنشاء مؤسسة وطنية مستقلة ومؤقتة، من شخصيات من ذوي الاختصاص والخبرة، والمشهود لهم بالاستقلال والحيدة والنزاهة، تكون مدة ولايتها من ستة شهور إلى سنة، تتولى مراجعة كافة القرارات بقوانين والقرارات الصادرة في حقبة الحكومة المستقيلة، وتنعقد لتلقي الشكاوي من الضحايا ضد جميع العاملين بكافة المؤسسات الوطنية، والتحقيق فيها، والاستماع لكافة الجهات والأطراف ذات العلاقة، وأن يتم نشر النتائج التي توصلت لها بحيث تكون هذه النتائج ملزمة قانوناً للجميع وقابلة للتطبيق الفوري، ليتم إصلاح الأضرار التي لحقت بالمؤسسات، وتعويض الضحايا، وتقديم مرتكبي الانتهاكات التي تثبت أمامها للمساءلة القضائية وفقا للقوانين النافذة، وبدون ذلك، فإننا ذاهبون إلى مأسسة انتهاكات حقوق الإنسان حتماً لا محالة.