إن كان العام الأصعب 2006 قد جاء للسيد/ جمال نزال الذي يقول في مقاله بعنوان "لماذا ترك الله حماس؟": "حينما وقعت السماء على الأرض، وفازت حماس التي لم تكن لحقت أن تنطلق على فتح التي قطعت كل الصحارى والأودية والبحور والقارات والفصول وقمم الجبال"، فنحن جاءنا العام الأصعب في تاريخ القضية الفلسطينية عام 1993، حينما تفوقت فتح على حماس وقطعت كل الصحارى والأودية والبحور والقارات والفصول وقمم الجبال، لا لتشق درب الرصاصة الأولى كما كانت في ستينات القرن الماضي، بل لتوقع الشعب كاملاً في فخاخ المفاوضات والمساومات والتنازلات وحبائل المستوطنات.
وإن كان يرى نزال أن "ذاك الفارس"- كما يقول- "الذي لا فروسية فيه خلقاً ولا خلقة، وصل أولاً رغم انطلاقه في مسيرته بعد انطلاقة فتح بثلاثين عاماً"، فنحن نرى أن ذاك الفارس لم يكن فارساً من فراغ، حيث أوصله الكفاح المسلح الذي تنازلت عنه السلطة وفتح إلى ما لم تتمكن الجولات التفاوضية المتعددة والمتلاحقة والعبثية على مدار عشرين عاماً من الوصول إليه بتاتاً، فبات العدو يخاف من مجرد كلمة المقاومة، فيما يستهزئ في الوقت ذاته من كبير مفاوضي السلطة وجماعته.
لعلَّ نزال يدرك أن تاريخ حركته المجيد كأول حركة تحرر وطني لن يغفر لأصحاب الحركة ولأصحاب السلطة معاً سوء أعمالهم اليوم من نزع سلاح المقاومة في الضفة الغربية، وتسهيل دخول قوات الاحتلال "الإسرائيلي" إليها في وضح النهار من خلال التنسيق الأمني لتعتقل من تعدهم خطراً على أمن الاحتلال وأمن السلطة معاً، فأمن السلطة من أمن الاحتلال، وأمن الاحتلال من أمن السلطة، كما يقضي بذلك التنسيق الأمني الذي يباهي به ويفاخر رئيس السلطة ورئيس الحركة الكائنان في شخص واحد.
إن صح قول نزال إن حماس المهادنة منذ 5 سنوات تقف بلا مقاومة وبلا تنمية وبلا مطار وبلا معابر مفتوحة وبلا أفق سياسي، فإننا نتساءل عما إذا كانت حركة فتح التي يقودها السيد/ عباس الآن هي حركة مقاومة تقف بلا هدنة وبلا تنمية وبلا معابر مفتوحة؟! وهل الحرب الأخيرة التي خاضتها غزة بحماسها وفصائل مقاومتها وصغيرها وكبيرها كانت كذلك فصلاً من فصول المهادنة منذ خمس سنوات؟! وهل كان الانتصار الذي حققته غزة مسرحيةَ مثّل فيها الشهداء والجرحى؟! وهل مدّ العدو غزة بصواريخ فجر 5 وM75 وغراد تثميناً لدورها في حفظ الهدنة طويلة الأمد؟!
ألم يرَ السيد/ نزال أن هناك تناقضاً جلياً في كلامه؟! فحماس إن كانت حركة مهادنة عطّلت خيار المقاومة منذ سنين، فهل يغلق الاحتلال المعابر ويضيّق الحصار على غزة؟! وهل سيكافئ العدو حماس المهادنة بإغلاق جميع منافذ غزة البرية والبحرية والجوية على العالم؟! وهل سيُدخِل العدو مواد البناء بكميات محدودة عبر معبر "كرم أبو سالم" لإبطاء إعادة إعمار غزة، إن كانت غزة خانعة مستسلمة كما جعل عباس ضفتنا الحبيبة الآن؟!
وإن كان نزال يرى من خلال ما ذهب إليه في مقاله أن "حماس الصغيرة"، كما يقول، "هي حركة مستضعفة تتألف من لفيف من الهبلان السياسيين لا راحوا ولا جاؤوا"، فماذا، إذن، عن حركة يعبر عنها نزال الذي نراه مولعاً بتفجير قنابل إعلامية خادعة لا تخدم المشروع الوطني الفلسطيني، وإنما تهدف حيناً إلى تقبيح صورة حماس وحيناً صورة اليسار في ذهن الجماهير الفلسطينية؟! كيف يمكن لنزال أن يدافع عن ترهاته، وهو يتحدث عن الجبهة الشعبية على نحو مسف من الناحية الأخلاقية، وعلى نحو ظالم من الناحية الوطنية!
ربما أتفق مع نزال في أن حماس اليوم ليست كحماس الأمس، ذلك أنها تكرر اليوم أخطاء "فتح" التي نفرّت الناس منها، فبدأت تميل للدبلوماسية والسياسة وإن كانت لم تشطب المقاومة ولم تتخلَ عن نهج الكفاح المسلح والثوابت الوطنية كما فعلت السلطة وتفعل وربما ستظل تفعل، كما أنها جهلت آليات استقطاب أهل غزة إلى صفها بسبب انتهاكها لحرية الرأي وعدم منحها المختلفين معها المساحة الكافية للتعبير عن وجهات نظرهم، غير أن الذي لا أتفق- البتة- مع السيد نزال حوله هو إيمانه أن حماس فارقت الثوابت الوطنية وضلت الطريق، فيما عرف الطريق أبو مازن!
و... لحظة... ربما أجد تفسيراً آخر لذاك الطريق الذي يقول نزال متباهياً بأن أبا مازن عرفه، فيما ضلّته حماس لأسجل نقطة اتفاق أخرى وأخيرة معه، فأبو مازن حقاً لم يعرف منذ جلوسه على كرسي الرئاسة سوى الطريق الذي شقّه أصلاً قبل سنوات حكمه.. طريق يسلخنا عن ذاتنا الفلسطينية وينفي عنا صفة اللجوء ويسلب منا حقنا في العودة إلى أراضينا الأصلية، خاصةً مدينته صفد. إنه (أي أبو مازن) لم يتوانَ عن استخدام كل الأساليب التي تجعل طريقه في الاستسلام للغاصب والتسليم لإرادته أقرب وطريقنا نحو التحرير والعودة أبعد، فنسّق أمنياً ووصف المقاومة بالعبثية تارةً وبالحقيرة تارةً أخرى، وحرر لصالح العدو "الإسرائيلي" 96 جندياً "إسرائيلياً" مغتصباً، فيما تمكن الشهيد أحمد الجعبري من الحفاظ على جندي "إسرائيلي" وحيد "جلعاد شاليط" حياً لمدة خمس سنوات في غزة التي لا تتعدى مساحتها 365 كيلومتراً مربعاً، فحرر مقابله 1000 أسير من أبناء شعبنا ضمن صفقة مشرفة تم إبرامها قبل سنتين!
إن طريقة استهزاء نزال من الاستشهاديين الحمساويين- الذين صورهم كأنهم سَذَج لم ينفذوا عملياتهم الاستشهادية النوعية إلا للتمتع بالعذراوات الحوريات- تعبر عن ضحالة فكره، واستخفافه بهؤلاء الاستشهاديين وجهله بأنهم هم من يزرعون في نفوسنا أمل العودة إلى كل شبر من فلسطين المحتلة.
وإن كان يرى نزال أن خسارة حماس في انتخابات المجالس الطلابية بجامعات الضفة الغربية يرجع إلى أنها لا تملك طريقاً في المقاومة وخلق التعامل، فهذه هي الطامة الكبرى! إن فوز الشبيبة الفتحاوية في الانتخابات لا يعني أبداً أن القواعد الشعبية لحماس قد انهارت، وأن فتح رجعت إلى مكانتها أيام الثورة الحقيقية، فكل ما في الأمر أن حماس في الضفة مقيدة وملاحقة من الاحتلال ومن السلطة، فعناصر الكتلة الإسلامية في معظمها رهن الاعتقال السياسي دوماً!
لست منتميةً لحماس أو لأي فصيل آخر غيرها، فانتمائي الوحيد هو لفلسطين وللمقاومة في سبيلها من بحرها إلى نهرها، ذلك أن من يحمل السلاح ضد المحتل الغاصب، أنحني له احتراماً وإجلالاً، الأمر الذي يجعل لزاماً عليّ أن أفضح ما احتواه مقال السيد/ نزال "لماذا ترك الله حماس؟" من زيفٍ أراده أن يطغى على الحق والحقيقة، دون إدراك منه أن من كان بيته من زجاج يَحْسُن به ألا يرمي غيره بالحجارة! أليس كذلك؟!
جميعنا يعلم أن حماس كسلطة حاكمة في غزة تقع في أخطاء وتصرفات خانقة لحرية الرأي والتعبير، وهو ما لا يعجب كثيرين وأنا منهم، خاصةً فيما ذكر نزال حول اعتداء بعض أفراد الشرطة على وقفة عناصر الجبهة الشعبية الاحتجاجية على ضرب الاحتلال دمشق، لكن منطلقنا في الكتابة والانتقاد يختلف عن منطلق نزال الذي لن يرضى عن حماس حتى لو تحولت إلى ملاك لا يخطئ أبداً!
وأخيراً، فإن كان يرى نزال أن الله ترك حماس، فباتت اليوم- كما يقول نزال في مقاله- "الحلقة الأضعف والخاسر الأكبر، بعد أن عاقبتها الإرادة الربانية على تركها المقاومة والانخراط في السلطة"، فماذا، إذن، عن سلطةٍ تخلت منذ سنوات عن حقنا المشروع في الكفاح المسلح، وانخرطت في السلام السياسي والاقتصادي والأمني؟! هل سيكافئها الله مثلاً بمباركة خطواتها والوقوف بجوارها على الدوام؟ إننا لو أعطينا أنفسنا الحق، فسايرنا نزال في منطقه القاضي بأن "الله ترك حماس" بعد أن جربها الناس، فلماذا لا يريد نزال وأمثاله أن يروا أن الله ترك فتح منذ زمن أبعد؟! وعليه، فلعلّ نزال لا يجعل نفسه مكان الله، ذلك أن الله هو الذي يحاسب- جزاءً أو ثناءً- حماس وفتح وعباس فيما كان من كلٍّ منهم حيال الوطن والناس.