طيلة 11 عامًا من الحصار والحروب، وغزّة تحقّق مفارقة "تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة". حين يعجز العقل عن الانعتاق من البنية التي فٌرضت عليه، تبدأ الإرادة بالتداعي للتغطية على ذلك النوع من العجز. إرادةٌ هادرةٌ، وهي الخيار المباح بالضرورة، أحالت نمط الرتابة اليومية طيلة هذه السنوات العجاف إلى بطن المواجهة؛ إحالة لا يمكن فهمها إلّا في ضوء تعثّر المعنى الحقيقي للرتابة في الخبز والدواء والعلاج والحركة، واستحالتها نمطًا مشددًا من العقاب، بغرض إنزال الجماهير إلى مستوى تشاؤم العقل والإرادة معًا.
غير أن القناعة المبكّرة بذلك أثبتت إخفاقها، فما نراه اليوم في ملحمة العودة وكسر الحصار الغزية هو نمطٌ متطوّرُ من تفاؤل العقل والإرادة معًا، وهو التهافت على كسر الخلاصة المرجوة من الحصار في الإخضاع وتفتيت الإجماع على هوّية المقاومة، وتخليق صدعٍ أساسيٍّ معها.
لم يكن طوق الدم بالأمس إلا ترجمةً عمليةً لتفاؤل العقل والإرادة سويةً، والذي لم يكن ليتم لولا الوصول إلى الذروة والابتعاد عن الهوامش الحدودية في التكييف والتكيّف، ولولا العقل المقاوم الذي التقط المفارقة التي خلّفها الحصار في تجسير المسافة مع العودة وتمثّلاتها، وحوّلها إلى تحدٍّ حقيقيٍّ ألزم العدوّ بالتعاطي معه بالمراكمة على إرث المذبحة، فيما هو ينمّ عن بلوغ العقل المقاوم الشعبي مرحلة السموّ- التي قد يراها البعض أعلى وأعتى مراحل الجنون- عبر رفض المفروض عليه وفرض رغبته، بل حاجته الماسة إلى التحرّر والعودة. ينطوي تفاؤل العقل والإرادة.
أيضًا في هذه المسيرات، على شهادة جيل متوحّش كان أسرع منّا في استدراك ما فاتنا، وفي بلوغ حدس التحرّر في أكثر الأزمنة انكفاءً عن الحقّ، دون أن نترفّع عن الإقرار بأنّ هذا الجيل بالضرورة هو ابنُ تجربةٍ مختلفةٍ خاضتها غزّة بسلاحها ولحمها وأسنانها، ليتلقّفها ابن الجيل بالصورة التي تعبّر عنه وعن هوّيته.
بالأمس، تخطّى كثيرون الحدود؛ هذه المناطق غير المعرّفة لدينا، وعاشوا عودةً غيرَ مكتملة. هذه الفرحة المعمّدة بالدمع من طفلٍ صغيرٍ يصرخ في أحد الفيديوهات "الله أكبر، مرقوا مرقوا" لا تعني سوى تجرّد مقهوري غزّة من النسيان والغلبة، وامتلائهم بممكنات المغامرة الواعية لذاتها قبل كل شيء؛ مغامرة تُبقي الصراعَ مفتوحًا تُحدّد غزّة وجهته وآفاقه، دون أن تُمنّي نفسَها بدمها على غيرها من بقاع فلسطين.
أكثر من مائة شهيد وآلاف الجرحى منذ 30-3 أقفلوا قوس العدم، وطاردوا حلمهم بشغفٍ وجهدٍ مضنٍ، وذرفنا عليهم جسرًا طويلًا من الدمع، ليقولوا لنا واصِلوا من بعدنا تفاؤل العقل والإرادة معًا.