ثوب أسود عليه عرق حرير أزرق خفيف، هو كل ما لبسته أمي لـ 14 عاماً، امتدت منذ وعيت على الدنيا في منتصف السبعينيات وحتى الانتفاضة الأولى، 14 عاماً حرمت نفسها من شرب الشاي حدادًا على ابنها الشهيد، 14 عاما ممنوع أن تذهب إلى الأفراح في البلد، ومع كل عرس، ستكون في بيتنا حفلة دموع من الأخت التي ستجبرها أمي على إرسال الهدايا باسمها والاعتذار عن الحضور بسب الحداد.
هكذا عشت أنا وإخوتي التسعة والعاشر الشهيد، فنحن أبناء الزوجة الثانية للرجل المسن العائد من زواج سابق بطفلتين هما أختاي الجميلتان المهاجرتان بعد حرب 67.
لا شيء أقوله لها اليوم في عيد الأم، ومرت كلمة كل عام وأنت بخير هكذا بكل سرعة ودون أية تبعات، لأسأل عن وجبة الأدوية وزيارة الطبيب وشفاء جرح العملية الأخيرة، فضغط الدم والسكري وسرطان الثدي لها قصص طويلة مع عمرها الصعب.
أيام فرح قليلة في حياتها، ولا أريد أن أستذكر كيف شكت من شيء واحد، كان في يوم استشهاد أخي ماجد، عندما منعها الرجال في الجنازة من أن تحضن جثمانه، وكيف قضت ليلة كاملة تذهب إلى نصف طريق المقبرة وتعود، لأنها تريد ترتيب نومة الولد الثاني، صاحب الشعر الخروبي والشامة البيضاء على غرة الشعر التي لم تعد، بل طارت بين زرع العائلة في الأرض التي احتلها اليهود وطردوا العائلة منها.
أتذكر في السبعينيات عندما كانت تأخذني معها لزيارة ابنها الأول الذي كان أسيرًا في سجن الخليل، ولن أنسى في حياتي كيف كان الجنود والمجندات يذلونها ويجبرونها على صعود تلة ترابية شديدة الانحدار مع باقي أمهات الأسرى، بينما يقف الجنود على الدرج يضحكون على صعودنا وصراخنا وتدافعنا. أتذكر حسرتها على ابن أختي الشهيد توفيق أبو عريضة الذي استشهد في بيروت في نهاية الثمانينيات، ولوعتها على ولديه وليد وهديل، وحسرتها لعدم قدرتها على إرسال الهدايا أو الأموال لهما. أتذكر الفرح الغامض على وجهها وهي تتذكر هذين الطفلين اللذين كبرا الآن في عمان والسعودية بدون والد أسمر بشوارب خفيفة هرب من الأردن ليلتحق بالثورة ويستشهد فيها.
أتذكر حسرتها منذ سنوات وهي تجبرنا على توزيع الأرض على "خواتي" من والدي، لأنها تعتقد أن الله سيحاسبها ولا تريد أن تموت دون حصول "بنات أبوي" على الإرث. طبعًا هي لا تعرف قرف المحاكم والقضاء والمحامين الذين يؤخرون فرحتها بتوزيع الحصص، وكل ما نتلقاه منها تأنيب ونكد دائم واتهامات بالتقصير.
أتذكر دموعها على باب الكعبة عندما اعترفت لي أخطر اعتراف، بأنها تسامح والدها الذي زوجها وهي دون السن القانوني، وأنها تسامح والدي الذي تزوجته وهو بعمر والدها وقبلت يده في ليلة الزفاف ونادت عليه: "يا عمي". سامحت الرجلين وبكت قبل أن يقص الولد الباكستاني جديلتها ويعلن أنها أتمت الحج إلى بيت الله ورسوله.
أتذكر غضبي عليها وأنا أدفع كرسيها المتحرك في المدينة المنورة وفي محيط الكعبة، وعندما تضرب أظافر قدمي في عجلات الكرسي وينزف دم خفيف، تحزن وتعطيني المحارم وتطلب مني أن أذهب لأتوضأ، مع أنني كنت في عالم آخر غير عالمها.
أتذكر غضبها علي لأنني لا أصلي ولا أصوم، وأكذب عليها في أيام الجمعة وفي رمضان، وأنني تركت التدخين وغير محسوب على "الشيوعيين". أتذكرها الآن وأنا عاجز عن التواجد معها أو معايشة أيامها أو الحديث معها بلغتها "الفلاحية"، وألعن عمري الذي بدأ يدخل مرحلة الاعتراف بالمشاعر الأولى، ولا يمزح ولا يضحك ولا يكذب مثلما كانت تحب، فأنا آخر أولادها الذي كانت تحمي خياله الكاذب وهو صغير، ووعدها بألف أمنية كاذبة، وما زال يكذب: "طيب يـ ما.. أنا جاي هذا الأسبوع".