احتفل الموالون للبطريرك اليوناني، "ثيوفيلوس الثالث"، ومعهم جمهور مقدسي كبير، من طوائف مختلفة، بـ"انتصار" رؤساء الكنائس على حكومة الاحتلال وبلديتها، بعد أن أعلن رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، عن تشكيل لجنة مهنية، برئاسة الوزير تساحي هنغبي، لتسوية قضية ضريبة "الأرنونا" التي تطالبُ بها بلدية الاحتلال رؤساء الكنائس في القدس، وقد تبلغ، وفق تصريحات البلدية، أكثر من 600 مليون شاقل. على أن يتم، وفق بيان حكومة الاحتلال، تجميد جباية الديون حتى انتهاء مفاوضات التسوية. و"بناءً على طلب رؤساء الكنائس" كما يقول البيان، ستبحث اللجنة التي عيّنها رئيس الحكومة في موضوع الأراضي التي تبيعها الكنائس في القدس لجهات إسرائيلية.
قام الطاقم الإعلامي المحترف، والذي استأجرته البطريركية اليونانية، بترويج الخبر على أنه انتصار لرؤساء الكنائس على حكومة الاحتلال وبلدية القدس، وعليه، فقد قرّروا إعادة فتح كنيسة القيامة أمام الحجاج الأجانب. هل حقا هو انتصار للكنائس؟ ولماذا قامت وسائل الإعلام الفلسطينية بالذات، والعربية عامة، بترويج هذا "الانتصار"، أو نقله، كما وصل إليها من المكتب الإعلامي المذكور، من دون التحقق من ماهية القرار الإسرائيلي؟ ولماذا يصف البيان تدخّل بنيامين نتنياهو بـ"التدخل البنّاء لرئيس الحكومة"؟.
يبدو أن العرب عامة، والفلسطينيين خاصة، بحاجة لأي انتصار على حكومة الاحتلال، حتى لو كان وهميًّا. ويخشى الإعلاميون منهم من توجهٍ محبِطٍ حتى لو كان كاشفا للحقيقة، أو أن كثافة العمل الإعلامي الذي يقوم به طاقم البطريركية اليونانية وجد صداه في وسائل الإعلام سريعا من دون تحقق، في حين أن الطرف المناهض للبطريركية تأخر أو تكاسل في فضح المسرحية، خشيةً من اتهامه بالدفاع عن الاحتلال، أو تبني نظرية المؤامرة.
اعتدنا، نحن الفلسطينيين، وأبناء الكنيسة الأرثوذكسية بالذات، على مثل هذه "الانتصارات" التي سرعان ما تتكشّف حقيقتها المأساوية، فتنعكس إحباطا واستسلاما، وهذا بالضبط ما يريده رؤساء الكنائس على اختلافهم. يريدون "رعيةً" عربيةً لا تخالف ما يقوله الراعي، قطيعا مطيعا، يستهلك ما يقدم له شاكرا من دون اعتراض، مصفقا مبتهجا حين يشار إليه، أو منافقين ومتسولين على أبواب الرهبان الأجانب.
ليس مصادفةً أن رؤساء الكنائس يرفضون أي تدخل لأبناء الكنائس العرب في أي مفاوضات بينهم وبين حكومة الاحتلال أو بلديتها، وليس مصادفةً أن رؤساء الكنائس يرفضون توكيل محامين أو محاسبين من أبناء الكنيسة العرب للدفاع عن أوقاف الكنائس في وجه المحتل، وليس مصادفةً أنهم يرفضون فتح أي ملفات مالية أو عقارية أمام مختصين عرب، وبالذات من أبناء الكنيسة نفسها، ويرفضون دعما شعبيا مطلعاً على الحقائق، إنما يريدون دعما غوغائيا يقوده منتفعون من فتات الموائد، لا يطلب فتح ملفات أو معرفة حقيقة، لأن "التطاول على شجرة المعرفة" يشكل خرقا "للستاتيكو"، وسببا "للطرد من الجنة"، وفق روايتهم قصة آدم وحواء.
شهدنا مثل هذه المسرحيات و"الانتصارات" الوهمية الكثيرة في الماضي، وسرعان ما تبين أن النتائج الحقيقية مأساوية. مثل هذه المسرحية حصلت عام 1990 عندما "احتل" المستوطنون دير مار يوحنا بجانب القيامة، فهبّ الرهبان اليونان دفاعا عن الدير، وفي مقدمتهم سكرتير البطريركية آنذاك، تيموثاوس، وأكثرهم تورطا في الصفقات، فتوافد أبناء الطائفة إلى القدس تضامنا، وارتفعت أصوات الخطباء، وأُغلقت كنيسة القيامة 48 ساعة. وحين هدأت العاصفة، تبيّن أن البطريرك اليوناني آنذاك، ثيودوروس، كان قد وقّع على صفقةٍ سريةٍ لتأجير الدير بالحكر، أي لفترة طويلة، لصالح شركة استيطانية مسجلة في بنما، وهي شركة تابعة لجمعية "عطيرت كوهانيم". أما المسرحية فكانت إجراءً ضروريا، حتى يبدو البطريرك اليوناني للرأي العام الوطني، في ظل انتفاضة شعبية عارمة، وحراك أرثوذكسي متفاعل ضد الطغمة اليونانية، أنه لا يبيع للمستوطنين، بل يقاومهم.. وما أشبه اليوم بالأمس؟ عشنا وشاهدنا مثل هذه المسرحية مسرحياتٍ كثيرة جدًّا، وهي لا تخفى على من لم يفقد بصره وبصيرته.
علينا أن نلاحظ أيضا أن إغلاق كنيسة القيامة لم يأت بسبب إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، ضاربا بكل الحقوق السيادية الفلسطينية، والقانون الدولي، وما يسمى "الستاتيكو" الذي يتمسك به رؤساء الكنائس، وخصوصا البطريركية اليونانية، عرض الحائط، ولم يأت بسبب حرق كنائس في طبريا وأماكن أخرى، أو بسبب ممارسات الاحتلال القمعية تجاه أبناء الشعب الفلسطيني عامة، ومنع أبناء الكنائس من الفلسطينيين والأردنيين خصوصا، من الوصول إلى القدس لأداء الصلاة حتى في الأعياد، ومنع، حتى أبناء القدس، من المشاركة في طقوس ظهور النور ليلة الفصح في كنيسة القيامة، بل جاء القرار، عندما وصلت اليد الإسرائيلية إلى جيوبهم وصناديقهم المنتفخة وهي، للحق، صناديق الكنيسة، والكنيسة هي مجموع المؤمنين.
الإعلام والحقيقة المغيبة
لقد نجحت الطواقم الإعلامية، خصوصا التي تعمل لدى البطريرك اليوناني، ثيوفيلوس الثالث، منذ بداية الحملة، في خداع الرأي العام العربي، مدعية أن سلطات الاحتلال تريد فرض الضرائب "على الكنائس"، بمعنى "الأماكن المقدسة" في المدينة، وهذا يعني انتهاكا للستاتيكو المتفق عليه منذ الحكم العثماني، وقد ساهم تواطؤ سلطات الاحتلال في ترويج هذا الادعاء بالسكوت وعدم إصدار بيانات تكذيب أو توضيح بغير اللغة العبرية. إضافة إلى ذلك، دأبت وسائل الإعلام العربية على عدم التواصل مع بلدية الاحتلال لأخذ موقفهم، فساهمت في الحملة بقصد ومن دون قصد، وأي جملة إعلامية ضد المحتل الإسرائيلي لا بد أن تلقى تأييدا وترويجا، وهذا هو الطبيعي طالما أن المحتل لم يعترض على ذلك أيضا، والحقيقة التي حاول نشطاء وطنيون أرثوذكس توضيحها منذ اليوم الأول أن بلدية الاحتلال لم تطلب فرض ضريبة "الأرنونا" على الكنائس بمفهوم أماكن العبادة، بل على الكنائس بمفهوم المؤسسات الدينية، وعلى العقارات التي تعتبرها البلدية عقاراتٍ مستخدمة بهدف الربح، وفق تعريفات قانون "الأرنونا"، وليس بهدف خدمة الحجاج وسائر المؤمنين. ولم يكن موقف النشطاء الأرثوذكس، كما صدر في بيان "حراك الحقيقة"، دفاعا عن المحتل الإسرائيلي، بل رافضا له من البداية، ورافضا كل صفقات تسريب العقارات الكنسية إلى جهات صهيونية مسجلة في جزر الكاريبي أو أماكن أخرى. وكان التوضيح يهدف إلى التحذير من كون إغلاق أبواب الكنيسة جزءا من مسرحية يقوم بها رؤساء الكنائس، بالتوافق مع المحتل الإسرائيلي، حتى يبدو هؤلاء الرؤساء في أعين القوى الوطنية مدافعين عن الوطن والأرض، لا مفرّطين وتجارا للأوقاف، ويبدو المناهضون للبطريرك اليوناني متعاونين مع المحتل ومدافعين عنه.
هنا لا بد من التوضيح أيضا أن الرأي القانوني الذي تعتمده البلدية لفرض الضريبة المذكورة وجبايتها، قد كُتِب في شهر أغسطس/آب من العام 2017، ويمتد على 21 صفحة، تشرح القانون الإسرائيلي المسمّى "أمر ضريبة الأرنونا" بكل بنوده، لكنه لا يشير، ولو بجملة واحدة، إلى الاتفاقيات الدولية المعمول بها منذ الفترة العثمانية. وتعيد هذه الاتفاقيات المصادقة على الستاتيكو الذي أقرته السلطات العثمانية آنذاك، ولم تنقضه السلطات السياسية اللاحقة، بما في ذلك السلطة الانتدابية التي أوجدت ضريبة الأرنونا عام 1934، مرورا بالسلطة الأردنية وسلطة الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948 أو بعد العام 1967.
الإدارة الفاسدة وتراكم الديون
في أعقاب القرار الإسرائيلي، تشكيل لجنة مهنية لتسوية قضية الضرائب المترتبة على الكنائس، باعتبارها مؤسساتٍ معترفا بها "شخصيات قانونية"، وليس باعتبارها أماكن عبادة، كما يوضح بيان البلدية اللاحق، وبالذات على عقارات تابعة للكنائس بهدف الربح، وليس بهدف إيواء الحجاج أو تقديم الخدمات لهم، كما تدّعي البلدية، دخلت القضية مرحلة حساسة وخطيرة تستوجب المتابعة والمرافقة، وعدم ترك رؤساء الكنائس يفاوضون المحتل من دون رقيب أو حسيب، لأن قضية الأوقاف المقدسية والضرائب المطلوبة من الكنائس ليست قضية تخص طائفة أو رئيس طائفة، بل هي قضية وطنية، ولها تداعيات كبيرة على الوجود المسيحي في الأرض المقدسة بشكل عام. ولأن الإجراء الذي يفترض أن تقوم به الكنائس هو التوجه إلى القضاء الإسرائيلي أو الدولي، اعتمادا على الحقوق المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية، وعدم القبول بلجنة حكومية يقيمها المحتل نفسه.
تراكم الديون الحاصل على مدى سنوات، بسبب طمع المحتلين من ناحية، وإهمال محامي الكنائس الذين عملوا واكتفوا بـ"تجميد إجراءات الجباية"، بدلاً من التوجه إلى المحاكم لإلغاء المطلب من أساسه، ما أدى إلى تراكم الديون والغرامات، يؤكد أن الإدارة الحالية للكنائس فاشلة، إن لم نقل فاسدة، لا يمكنها أن تستمر في إدارة شؤون الكنائس. وهذا ما حذرنا منه منذ سنوات، من دون أن يصغي إلينا أحد، وهل يمكن للفاسد أن يصغي لمن يشير إلى فساده؟.
انتصار وهمي له مخاطره؟
مجرد قبول رؤساء الكنائس بقرار رئيس حكومة الاحتلال ورئيس بلدية القدس إقامة "لجنة مهنية يشارك فيها ممثلون من وزارات المالية والداخلية والخارجية والبلدية بحكومة الاحتلال، لوضع خريطة طريق لتسوية قضية الأرنونا على الأملاك الكنسية من غير دور العبادة، والتفاوض مع رؤساء الكنائس على أساس ذلك"، هذا القبول بحد ذاته انتصار لحكومة الاحتلال وبلديته في القدس المحتلة وليس لرؤساء الكنائس، لأنه إجراء حكومي داخلي، لكيفية مواجهة الكنائس من ناحية، ومن ناحية أخرى، لأن ما اعتبرته الكنائس "تابو" وحقا محميا بالاتفاقيات الدولية، ومشمولا في "الستاتيكو"، أصبح موضوعا قابلا للتفاوض بين رؤساء الكنائس وحكومة الاحتلال، إضافة إلى ذلك، لا بد من التذكير أن رئيس اللجنة "المهنية" هو الوزير "تساحي هنغبي"، وهو نفسه الوزير الذي ترأس اللجنة الوزارية التي فاوضت "ثيوفيلوس"، وفرضت عليه شروطها في مقابل الاعتراف به نهاية العام 2007.
فوق هذا وذاك، طلب رؤساء الكنائس، وموافقة رئيس حكومة الاحتلال، أن تبحث هذه اللجنة مع رؤساء الكنائس قضية العقارات التابعة للكنائس التي بيعت لجهات إسرائيلية أو ستباع في المستقبل، أمر يثير القلق إلى حد كبير، وعليه، وجب التحذير من احتمال بيع عقارات جديدة مقابل سداد ديون سيتم الاتفاق على دفعها، عندها سيخرج رؤساء الكنائس "منتصرين"، أيضا، ومدّعين أنهم دفعوا أقل بكثير مما طالبت به البلدية، لكنهم كانوا "مضطرين" إلى بيع عقارات تابعة للكنيسة لسد الديون، ولو توجه رؤساء الكنائس إلى المحكمة بمرافقة محامين ومحاسبين مخلصين، ربما لن يدفعوا شيئا أو أقل بكثير مما تأتي به المفاوضات.
تتمثل النتيجة الأخطر لهذه المفاوضات في إيجاد اتفاقيات جديدة، بديلة للاتفاقيات الدولية، بين سلطات الاحتلال الإسرائيلي ورؤساء الكنائس، ويكون بذلك قد انتهى مفعول "الستاتيكو" المعروف تاريخيا في ما يخص العلاقة بين الكنائس والسلطة السياسية الحاكمة. ولا بد أن تشمل هذه الاتفاقيات الجديدة، أو تعني، اعترافا رسميا من رؤساء الكنائس بالسيادة الإسرائيلية على القدس المحتلة، بما في ذلك الكنائس، وعليه، أعتقد أن هذا الهدف كان قد وُضِع على جدول أعمال حكومة الاحتلال الإسرائيلي بعد إعلان ترامب، وهو أحد الإجراءات المترتبة على إعلانه لتجسيد السيادة الإسرائيلية على القدس المحتلة، وقد جاءت الفرصة لتحقيقه، وقد تلحقه إجراءات مشابهة في ما يخص مؤسسات الأمم المتحدة.
لا شك أيضا أن أية اتفاقية جديدة ستكون لها تداعياتها على الأوقاف الإسلامية في القدس المحتلة، وعلى مجمل العلاقة بين البلديات والمجالس المحلية داخل مناطق الـ 48، فيما يخص أملاك الطوائف التي تعود ببعض المال على الكنائس، أو الجوامع المحلية، لسد تكاليف المحافظة على الأماكن المقدسة، أو تقديم بعض الخدمات للطوائف المحلية.
من الخطأ ترك رؤساء الطوائف يفاوضون المحتل الإسرائيلي، من دون تدخّل أبناء الكنائس، ومن دون رقابة وطنية مهنية مرافقة، لما قد يكون لهذه المفاوضات من تداعياتٍ على الوجود المسيحي عامة، وعلى المستوى المحلي في كل مدينة وقرية، من الخطأ أن تُترك الإدارة المادية في أيدي رجال الدين الفاسدين والفاشلين، أو أن تُترك في أيدي محاسبين ومحامين أثبتت التجربة فشلهم وإهمالهم في الدفاع عن مقدرات الكنائس وحقوقها. الإبقاء على الإدارات الحالية هو تأكيد لاستمرار الفساد، ونذير بعودة الأزمات إلى ما هي عليه الآن في المستقبل. لا يجوز لأبناء الكنيسة المخلصين أن يديروا ظهورهم لما يحدث، ولا يجوز لهم أن يقبلوا بدور القطيع المطيع لمن لا يستحق الثقة والحفاظ على الأمانة المقدسة، ولا يجوز السماح باستمرار سيطرة ثلةٍ من الرهبان الأجانب على الكنائس المحلية، يعيثون فيها فسادا وإفسادا، من دون رقيب أو حسيب من الكنيسة نفسها أو من الهيئات الوطنية الفلسطينية والأردنية، أعيدوا الأمانة إلى أصحابها، فهم أولى وأقدر على إدارتها.