قد يكون المرء بين عشرات الأصوات، من الناس حوله، وفي داخله، لكنه لا ينصت لأي منها، يلفّه الدوار، وكلما حاول إمساك صوت يهرب على الفور، إنها الحالة التي يعرف فيها خبراً جللاً، لكنه لا يستطيع استيعابه، يسمعه ويعرفه، ثم يحاول أن يحفظه، لكنه لا ينجح أبداً باستيعابه، وكلما حاول أكثر، يغوص في دوامة الدوار أكثر.. هذا بالضبط ما حدث مع أم الشهيد عماد عندما وصلها الخبر، فقد سمعته من أذنها، فجمّد الدم في أوردتها، ثم تحول إلى أصوات كثيرة، حولها وفي داخلها، و باقي التفاصيل صرت تعرفها.
الحدث جلل، والفاجعة كبيرة عليها لأنها لم تستعد، لم يَظهر جانبه هذا من قبل، حتى لأمه، الرجل الذي يشتري أغلى الملابس والساعات، وصاحب رائحة العطر الأغلى، يغير نظارته الشمسية كل ثلاث شهور و لا يلبس قميصاً أو بنطالاً في الشهر أكثر من مرة، هوايته لعبة الشدة مع الأصدقاء، والرحل التي لا تنتهي، رجل لا همّ عنده، لا أعداء ولا خصومة، الأول في الأخلاق وصاحب السمعة اللامعة، ملتزم في صلاته، وصديق لقرآنه، رجل (بحاله ولحاله)، يقبّل كف أمه قبل أن يخرج كل ليلة فتسأله: متى راجع يما؟ فيقول، تستنينيش الليلة بدي أطول، ويعود بباقة ورد ملون أخرى ليجدد سابقتها التي ذبلت. رجل عادي لهذه الدرجة، كيف يفجّر جيباً و يحمل بندقية ويقتل جنوداً إسرائيليين؟ الفاجعة كبيرة عليها، لأنه رحل، وأكبر لأنه رحل فجأة، لم تتوقع أن يكون طفلها المدلل، مقاوماً، في حقيقة الأمر! الكل كان ينظر إلى عيون أمه بترقب، الكل انتظر منها زغرودة اعتادوا عليها من أمهات الشهداء، أو صراخاً يخترق فضاء البلاد كلها، الكل كان يترقب عيون أمه، لكنهم انتظروا كثيراً قبل أن تخيبهم بنظرة ناعسة إلى الأرض، وتدخل إلى غرفته بهدوء. في الخارج، الناس تبكي و تصرخ، لكن داخلها كما هو، دوامة من الدوار، لا تستطيع الإنصات لأصواتهم، ولا لأصواتها، نظرت إلى صورته التي تملأ الحائط على عرضه، لم يختلف أي شيء، لا يزال يضحك، و ينظر إليها بالطريقة ذاتها، وإن نظرته تلك، هي ما جعلت أمر الاستيعاب هذا أصعب! بعد ساعة من التمعّن في صورته، سألته أخيراً -والأصوات حولها تُصبح أوضح-: عماد حبيبي، وينك؟ ثم جاء صوت من بعيد، استشهد البطل! رفع راسنا أحلى شهيد! بدأت تعود للوعي عندما سمعتها هذه المرة، و انهمرت دموعها كالمطر على الخدين، خرجت من الغرفة: وينوو! بدي أشوفو! ، سألها شاب لا تذكره، آخر مرة يا خالتي ! فقالت بصبر أعجب الصبر نفسه، آخر مرة يا خالتي، بدي أشوفو.. الكل يصرخ حولها و ينحب، و هي بخشوع مهيب تجلس، بهدوء، تبكي دموعها بصمت عجيب، تنتظر حبيب فؤادها، يقترب فوق أكتاف الشباب، يهتفون له و من أجله، تقف البلاد كلها خاشعة من هيبة الجسد و ظله، ترتفع حرارة أنفاسها كلما اقترب و كلما علت أصواتهم أكثر، ترتجف يداها ولا أحد يرى. أدخلوه غرفته، و نادوا عليها وحدها، كانت المرة الأولى و الأخيرة التي تراه بهذا الشكل، يلبس علما واحداً طويلاً و عليه بعض الدماء، ينام نصف نومة ولا يتقلب، يبتسم، لكنها رأته قد ضحك حتى بانت أسنانه عندما اقتربت لتقبله، بكت بهدوء مرة أخرى، دعت له كثيراً، و أخذت وردة حمراء من إكليل زيّن وجهه، ثم قبّلته قبلة واحدة طويلة، قبل أن يرفعوه في زفة حملته فيها الملائكة، و غنّت له حناجر النساء، و توقف الكون كله كي يشيعه، حينها شدّت قبضتها على الوردة في يد، و لوّحت بيد أخرى، ثم نادت عليه عندما ابتعدوا به نحو فراشه الأخير: بدك تتأخر يا حبيبي؟
ثم رد الصدى من بعيد، مش رح أطول، استنيني!