كانت الخطواتُ ثقيلةً على الأرض، والمسافةُ رغم قصرها، إلا أنها بدت طويلةً جدًا، أخذتُ أسألي نفسي سؤال كل مرة.. "أنا شو اللي جابني"!
كانت الإجابة سريعةً هذه المرة، صورة أحمد مبتسمًا على باب بيت عمه، ولافتة مكتوبٌ عليها "بيت أجر الشهيد أحمد جرّار" وكأنهُ يعيدُ إجابة السؤال من بعد الصورة بالتأكيد..
عند عتبة البيت، أخذتُ أعيد ترتيب كلماتٍ وجملٍ طويلة، أريد أن أقولها لوالدته، وأسئلة كثيرةٌ أيضًا، لكنها اللحظةُ التي تمسحُ كل شيء وتعقدُ اللسان، "عظم الله أجركم، الله يرحمه ويصبركم"، تلاشى كل شيء، وأصبح الكلامُ ثقيلًا وكان الصمتُ سيد الدقائق الأولى، يا الله هذا حزنٌ فوق حزنٍ لا أطيقه..
جلستُ ورحتُ أتأمل النسوة، وأعودُ ببصري نحو أم الشهيد، لا أسمعُ ما يقلنه، وكأنني خارج المكان، في تلك اللحظة، ضحكت أم صهيب والدة أحمد، لا أبالغ إن قلتُ أن شيئًا ما في داخلي عاد إلى الحياة، سكب الله في قلب هذه الأم صبرًا عجيبًا كنا نعجزُ عن تخيله، حتى أرانا الله إياهُ فيها..
بجانبي كانت تجلسُ جينا، أخت الشهيد وابنة الشهيد، سألتها عن اسمها لأتأكد منه،" اسمك جنى ولا جينا؟" ضحكت وقالت لي جينا، وهكذا بدأ الحديث..
عرفتها بنفسي وقلت لها أني صحفية، تنهدت وقالت" الحمد لله ما معك كاميرا".. ابتسمت وسألتها لماذا، فأخبرتني عن كثرة الصحفيين وأسئلتهم، وملاحقتهم إياهم بعدساتهم، تحدثنا عن ذلك لفترة، وأخبرتها أنني أتيتُ وقد تركتُ الصحافة وفضولها واسئلتها خارج الباب.
عادت تقلب في هاتفها، وأردتُ أن أستكمل الحديث،" لما طلعتي بس أخذتي تلفونك؟" سألتها، وهنا بدأت الحكاية من البداية..
"ليلة ليلاء"..
أخبرتني جينا عن ليلة هدم الاحتلال لمنزلهم، عن المشهد الذي لم نره على الشاشات، في تلك الليلة وعندما بدأ صوت الرصاص، جلست أم صهيب وجينا ومحمد، في إحدى غرف البيت، الأم تقرأ القران وتدعو بالثبات لمن كان نصيبهم بلاءً جديد من الاحتلال، وحين اشتد صوت الرصاص طلبت منهما أن يجلسا بقربها على الأرض، قالت لها جينا بأنه لن يحدث شيء فهم ليسوا مستهدفين، ولم تكد تُنهي كلماتها حتى ضرب البيت بالقذائف، وأخذ الاحتلال يطلب منهم الخروج من المنزل، حدث الأمر كلمح البصر، خرجت جينا وتبعها أخوها محمد وأمهما..
"تذكرت لما هدوا بيتنا أول مرة"..
كان الوقت مثل هذا الوقت ومثل هذا الجو، حين هدم الاحتلال منزل عائلة جرّار في المرة الأولى، كانت جينا حينها في سنواتها الأولى، سألتها ماذا تذكرين، فأجابت أنها حين خرجت هذه المرة من البيت ومن هول ما كانوا فيه نسيت أن تنتعل حذاءها، وحين لامست قدماها الأرض الغارقة بماء المطر أعيد لذاكرتها كيف وقفت في ذات المكان وعلى ذات الأرض قبل ١٥ عامًا ولم تكن تنتعل حذاءها أيضًا، لأن الاحتلال لم يترك لهم شيئًا.. أما عن هاتفها فقد نسيته أيضًا، لكن جنود الاحتلال هم الذين طلبوا منها ان تعود لتحضره من أجل الاتصال بأحمد.. فنجى!
"مش مصدقة إنه أحمد استشهد"
صورٌ قليلةٌ هي التي بقيت على هاتف جينا، أخذت تقلب فيها، صور الشهيد أحمد وصور والدها الشهيد نصر، صور طفولتها القليلة مع والدها، وصورتان وحيدتان لها مع أحمد، وصورتهُ حين استشهد.. أطالت النظر فيها، وتأملتها وأعادت جملتها "مش مصدقة انه احمد استشهد.. شوفي متل كأنه نايم".. ابتسمت لها وأخبرتها بأن ما زال حيًّا، فالشهداء لا يموتون، وأجسادنا من تراب والى تراب، اما الروح فحرةٌ عند خالقها..
"ما كان مبين عليه" كان ردها على صوره بالزي العسكري، فهي لم تتخيل أن يكون أحمد بهذه القوة ليحمل بندقية، لملامح أحمد وتصرفاته، فلمن يعرفه هو إنسان مرحٌ ولطيف لا يمكن ان يخبئ هذه القوة والبسالة، إلا أن أحمد لم يكن ابن نصر جرّار فقط وإنما ابن فلسطين وابن الشعب كله كما قالت والدته، وهنا لا عجب في أن يكون ما كان عليه.
قبل سنوات سافر أحمد الى فرنسا، عندما عاد أخبرته جينا عن رغبتها بالسفر، فوعدها بأن يأخذها بالسيارة إلى فرنسا حين تتحرر فلسطين، لكن الجنة كانت أقرب له من فرنسا، فذلك الشاب العشريني ذو الملامح الجميلة، كان يعرف أن طريق البلاد للتحرير لن تعبد إلا بالدماء والشهداء وأن الثأر لا يسقط بالتقادم وإنما حيٌ من جيل لجيل حتى تعود البلاد لأصحابها..
"بدي الشهداءِ يكونوا جيراني"
في عائلة جرّار ضرب الله لنا مثال الصبر العجيب، ونموذج العائلة العجيب، وضرب الله لنا مثل استمرارية عمل الإنسان الصالح الذي لا ينقطع عمله بعد موته، فكان أحمد استمراريةً لوالده وعمله، وخلودًا لاسمه في الشعب يذكر ما ذكرت بطولة وتضحية.
قبل استشهاد نصر جرّار أخبر أحد أصدقائه أنه يريد التبرع بالأرض التي بين منزله والمقبرة لتكون مقبرةً للشهداء، فقال له صاحبه أن يتريث فله أبناء صغار وله أخوة، والأرض قد تكون أنفع لهم، فقال له نصر جرّار حينها، "أنا بدي الشهداء يكونوا جيراني" ومضى بعدها نصر ليكون شهيدًا وجارًا لمن أحبهم وطلب جيرتهم.
إن الحياة في سبيل الله ليست بالأمر السهل وإنها لصعبةٌ إلا على الذين اصطفاهم الله ورزقهم الصبر على ابتلاءاتها ومشقتها، وآل جرّار كانوا نعم المثال للموت والحياة في سبيل الله. هذا البيت الذين خرج منه رجلٌ صالح مقاوم، وترك فيه بذورًا طيبة حين اشتد عودها أوجعت المحتل، سيظلُ حاضرًا في الذاكرةً سيكون
النموذج لما سيتبعه من عملياتٍ يُرِيدُ لها أصحابها أن توقعَ ذات الأثر وأكثر.