لست من أنصار نظرية المؤامرة، ولكن ما مر بالقطاع في العقد الأخير وتكثيف ذلك في الفترة الأخيرة يجعل السؤال مشروعاً وصارخاً وجارحاً، لماذا .. ؟!!
ولو عدنا للخلف لوجدنا أن قطاع غزة هي البقعة الوحيدة وعلى صغرها بقي يحمل اسم فلسطين الذي قاوم كل محاولات طمس اسم الوطن الأم بمحاولات التوطين إلى الذوبان في كيانات عربية وشكَل بذلك العُقدة والعقبة في طريق التصفية ويُعزى ذلك إلى قوة شكيمة أهله وعُزز ذلك بموقف عبد الناصر ومصر بعد النكبة وحتى حرب يونيو، والآن تجري ضده نظرية وأساليب توضع موضع التنفيذ والتجريب واسميها حرب التجويع بقصد التركيع، ولقد جُربت هذه الطريقة بداية في العراق بعد زلزال حروب الخليج (النفط مقابل الغذاء) فضاع النفط وجاع الشعب وانعكس ذلك على المنظمة بالمحاصرة والتجفيف وصولاً لأسلو والحال الآن أكثر سوءاً، فالعواصف التي تهز وتدمر الوطن العربي انعكست في مقولة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بدلاً من الصراع العربي – الإسرائيلي بموافقة العرب، تخلصاً من قضية الأمة ولم يكتفوا بذلك فلقد انزلقوا إلى التآمر على القضية وأهلها.
وهنا أخص غزة كهدف مرحلي لتصفية القضية بإذلال أهلها حاملي المشعل والراية وسر الصمود، وكانت هناك انعطافتان مهمتان في السنوات الأخيرة، أولهما: انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من القطاع بغض النظر عن (الكيفية) والثانية انزلاق حماس تحت مظلة أوسلو (بعد غياب المؤسسين) بالانتخابات والتي هُندست أمريكياً حين عاد الرئيس أبو مازن من هناك مصمماً على إجراء الانتخابات مع علمنا بأنه ليس ذو نزعة ديمقراطية، وكان الهدف الخفي إدخال حماس في اللعبة السياسية، وتدجينها وحصل ما حصل وفازت حماس كما كان متوقعاً وشُكلت حكومتها باللعبة الديمقراطية ولم تُمكن من ممارسة الحكم فعلاً وانتهت اللعبة بالانقسام، وخرجت اللعبة عن أصولها وتولت حماس حكم غزة بلون واحد لا تقبل مشاركة أو مزاحمه وجلست المقاطعة في رام الله تتفرج بلا انزعاج ولم تبذل أدنى جهد حقيقي لإنهاء الانقسام، وكنت شاهداً على ذلك كوني أول من ذهب لرام الله بعد ثلاثة أسابيع لاستطلاع الأمر وفي غمرة نشوة الحكم لم تشعر حماس بعبئ إدارة القطاع، فكانت الأنفاق على حدود مصر تدر دخلاً كبيراً يغطي معظم احتياجاتها واندفعت قطر وتركيا للمساندة، وأصيبت حماس بالأنا وغرور اللحظة وتضخم الجهاز المدني والعسكري لأكثر من سبعين ألف عنصر هذا غير الجهاز الذي تركته السلطة خلفها وأمرته بعدم العمل مع دفع الراتب كل ذلك أوقع القطاع في الفخ المالي وتشديد الحصار من الجميع وأنتج ذلك ثلاثة حروب دفع شعب غزة الثمن الأعلى في تاريخه وصمد الناس في وجه أعتى قوة عسكرية ولكن تدمرت البنية الأساسية والبيوت، وتوقف الإعمار على إدارة إسرائيل والعرب ولجانهم الفاشلة.
ثم تسارعت الأمور بغلق الأنفاق وتقاعس حلفاء حماس عن المدد وخسرت سوريا وإيران وكان تدمير سوريا واليمن والعراق وليبيا بتحالف المال البترولي مع أمريكا وتركيا وغيرهم مؤثراً وهنا كانت نقلة الشطرنج من الرئيس محمود عباس بكش ملك لحماس بالضغط على الناس بخفض الرواتب والإحالة للتقاعد استكمالاً للأزمة وكل هذا نال من أُناس كانوا هم عناصر سلطة رام الله.
وهنا فُتح باب مُوارِب لكلمة مصالحة وأعطيت مصر دور تنسيقي للعملية وبدأت حماس تُعيد حساباتها بقائد جديد رأى أن حِمل غزة تنوء به حماس وأكبر منها وأزعجه حجم الفساد الذي تسرب لبعض عناصرها.
وتواصلت وتصاعدت أزمة غزة ووصلت إلى رغيف الخبز ناهيك عن الماء والكهرباء والصحة وجميع مناحي الحياة.
ولاحت فرصة لي لمقابلة الرئيس أبو مازن بعد انقطاع طويل وهي عُمر الانقسام لإستشراف إمكانية التقدم نحو إنهاء الانقسام وكان لقاء واضحا وصريحا غير ما نسمع من المتحاورين.
وقال الرئيس أبو مازن إن الرئيس الأمريكي ترامب أخبره أن المصالحة يجب أن تسير وتتم وأنه أصدر أوامره لطاقمه وجهات إقليمية لتسهيل ذلك ومن ضمنها "إسرائيل"، ولكن هذا أثار مخاوف الرئيس أبو مازن خاصة أن ذلك أتى بعد تحركات وتفاهمات (دحلان – حماس) واستشعر أن هناك عاصفة ستهب، وقال لي بوضوح أنت ابن غزة وعلى حماس أن تفهم ما يلي: "إن أرادت المصالحة، أن تتخلى بالمطلق عن حكم غزة وأن تتمكن الحكومة بالتمكن والسيطرة على كل شيء من المال حتى السلاح وأن يعاد ترتيب أوضاع القطاع من جديد"، وهنا طلبت منه إعادة النظر بقطع الرواتب، فقال: "لن أرفع عقوبات ولن أُقدم مبادرات إلا بالشروط السابقة وأن تكون غزة هكذا وأشار إلى خاتم في إصبعه، وإلا بنتهم عندهم وابني عندي!!، وهو تعبير شعبي يعني كل من عنده وفي حاله.
وهنا اكتملت حلقات الحصار من كل الجهات وألقى ترامب القفاز في وجه الجميع بموضوع القدس وأتبعه بالحرب على تصفية وكالة غوث اللاجئين، وللعلم سبعون بالمائة من سكان غزة لاجئين وهنا بدأت التصفية بحذف القدس واللاجئين والكل ينتظر بقلق والبعض بشوق للصفقة وما يجري على غزة يأتي في هذا السياق من محاولة تجويع وإذلال بصفتها حاملة عبء النضال وأهلها وموقعها يصعب تجاوزه، وهل ما يجري بالتوافق والاتفاق للقبول بما هو آتي؟؟ والليالي من الزمان حُبالى.
ولست من البلاغة لأشرح كيفية جلد الروح الوطنية والإنسانية والكرامة والضرب تحت الحزام بلا وازع أو ضمير لجعل غزة تُفرط في شرفها المتراكم وطنياً خلال سبعون عاماً، وأقول باسم أهلها: غزة تموت واقفة ولا تركع ولن تمروا، ولا نامت أعين الجبناء، وللحديث بقية".