ابتسامة خفيّة، تعدل كل العالم، هي ابتسامة الشهيد المنفّذ، المختفي. بين أكوام اللحم والدفء في المخيم. ابتسامة الشهيد المنتظر، المجتبى، الحيّ الدائم، الذي يعود إلى حياة الانتظار في المخيّم، بقلب لا يتوقف عن النبض، بصدر لا يتوقف عن كتم النبض.
ابتسامة تشعّ إلى الداخل، تتوهج في الفرح الذي يسري نسغا بين الأزقة، ابتسامة تشع إلى الداخل، وهي تستشعر انبهار الأطفال والصبايا والعجائز المدخّنين والمعتقلين والجالسين في المقاهي، والباعة أمام دكاكينهم، الانبهار التامّ بفعلة التنفيذ، تستشعر الحبّ في قصائد التمجيد للوجه المعتم الذي لا يعرفه أحد، إلى أن يستشهد فينبثق ضوءًا من إحدى الزوايا فيجتاح الحيطان في الملصقات، وقلوب الناس تحت الشتاء.
المجد للمنفّذ.. المجد للتنفيذ، هذا زمن نفاذنا إليهم، من وراء الأسوار والعقيدة الأمنية والحواجز وثكنات الأمن الوقائي. هذي يدنا الطولى تنفّذ القدر، تَنفُذ نحو عمق التحصينات وتعبث بأقدس مقدسات "إسرائيل": الدم المستوطن. وتسكبه على بساطير المقاومين وعلى شاشات الأخبار، وفي تحليلات المحللين على شاشات التلفزة.
هل تستحقّ هذه الابتسامة الخفية كل هذا الموت؟ تستحق!.
منفّذ واحد؟ منفّذين كثر ؟ كيف انسحبوا. كيف تقدّموا؟ كيف تموضوعوا، وتمترسوا، واستشهدوا؟ هكذا يتساءلون في النشرات وفي المقاهي وفي أروقة الأجهزة الأمنية، وفي المكالمات الغاضبة التي يجريها كولونيل أشقر وقح مع عقيد ذليل يحاول أن يوضح له: نحن كلاب حراسة يقظين، لكنهم رغم هذا نَفَذوا.
تتراكم الأسئلة بين الناس: كيف ذاب المنفّذ بين الناس، في حياتهم العادية، كيف غاب المنفّذون، مبهرون، نافذون، ممسكون بعصا القدر، وينتظرون الاستخبارات التي ستكتشف موضعهم، في هذا السجن الكبير الخاضع للرقابة بكل منتجات التكنولوجيا، وبكل كلاب الحراسة الممكنة. ينتظرون في مكمنهم، يحفرون كمينهم الأخير. يختارون مواضع إصاباتهم بالرصاص، يحضّرون قوائم الأصدقاء الذين سيعانقونهم مودّعين.
كيف ودّع أحمد جرّار أمّه، من دون أن يقول لها إنه يودعها؟
باسل الأعرج احتضن أمه للمرة الأخيرة على باب سجن بيتونيا. قال لها: اسبقيني إلى المنزل، سأوافيك هناك. وهو يجاهد ألا يحتضنها بأكثر مما يجب، حتى لا يخفق قلب الأم بما يستوجب المساءلة. عانقها عناقا سريعا، عناقا تلتوي فيه عضلة القلب من وجع، ثم ذهب نحو استشهاده.
هذه هي إجابة المنفّذ: يقابل المنفّذ المجيد كل الأسئلة التي تدور حوله، بل ويشارك فيها، بالابتسامة التي تشعّ إلى الداخل.
ماجد أبو قطيش، حين خطف طوليدانو، ثم ذبحه بسكّين في كهف على طريق أريحا، تحدّث عن هذه الابتسامة: كانت الخلية قد اجتمعت في منزله، وشاهدوا محلل التلفاز الإسرائيلي يقول: على ما يبدو فإن الخلية لم تقم بإعدام ضابط الـ "يمام" بعد. قال ماجد بأنهم نظروا إلى بعضهم وابتسموا. وطوليدانو توقف عن الشخير قبل ساعات ودمه ينصبّ على تراب المغارة.
منفذ واحد؟ منفذين كثر: هذي يد الشعب، عديدة الأصابع، نافذة الإرادة، ضامرة الرصاص، وافرة المحبّة، عميقة العشق، شديدة الصمت، قادرة، مُعجزة، لا يضيرها من والاها، إلى أن نقتلع المخيّم بكل مبانيه، وكل أزقته، وكل شعاراته الجدارية، وكل هوايات أطفاله في صنع الأكواع، ونحطّ بها حطّا فوق ناطحات السحاب في تل أبيب. إلى أن نرفض، بعد طرد نسل عبّاس من فلسطين، منحهم تأشيرة سياحة لدخول صفد.
ليبرمان قال في تعليقه على تصفية الشهداء: "يد إسرائيل الطولى ستصل إلى المخربين في مخابئهم". لكنه نسي أن يد فلسطين الطويلة تقتحم أحصن حصونه أيضا، وهي، حتى تكون في "مخبئها" تقتحم جنوده المتحصّنين من وراء الدبابات، وتحت الطيارات، وداخل الخوذات والبذلات الواقية. وتخترقهم، تماما، بالرصاص.
يد فلسطين أطول، اليد التي تبادر إلى الهجوم. اليد التي تدافع عنّا جميعا بإعلان الهجوم الآمر، الآسر. القاضي الذي لن يتوقف عن النفاذ إلى أن تقتلع حڤات چلعاد.
منفّذ واحد؟ منفذون كثر؟ لا أحد يعلم. حتى مخابرات إسرائيل، أية صلاة تمتمها المقاتل في قلبه المطمئن إلى صواب الإتجاه: صواب الاتجاه حڤات چلعاد اليوم. صواب الاتجاه هو صفد التي لن تتوقف عن كونها محطتنا النهائية، من أم الرشراش، سنتمترا سنتمترا، نحو الشمال. نحو الجليل الأعلى، صواب الاتجاه دم كثير يهطل مع المطر. السماء تسكب مطرا على فلسطين، وفلسطين ترد بالشهداء يخترقون الغيم نحو التاريخ. نحو تحرير الجغرافيا من قاذورات التاريخ.
الشهيد يصلّي صلاته الأخيرة، بما تبقى له من دم لم يتغلغل في التراب بعد. والقاذورات المنتظرة في ثكنات الأمن. القاذورات التي تنتظر إعلان الـ "يمام" بانتهاء عملها، لكي تخرج القاذورات فتباشر عملها، تشعر الآن بالبرد الشديد.